شاركتُ أول من أمس في ندوة بجامعة بيرزيت، بمناسبة أربعين عاما على اختفاء حنا ميخائيل (أبو عمر). وشارك فيها أيضا عدد من رفاق وإخوة الشهيد، ممن عرفوه وعاصروه، بمن في ذلك زوجته السيدة جيهان الحلو، ود. نبيل شعث، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، وأبو نائل القلقيلي الذي كان سفيرا لفلسطين في فيتنام قبل قرابة خمسين عاماً، والمناضل والكاتب داوود تلحمي.
ولعل واحدة من النقاط التي تستدعي التوقف في سيرة الشهيد، هذا المزج بين الفكرين الإسلامي والماركسي في ذهنه. وبغض النظر عن هذا المزيج، فإنّ شبه الأكيد أنّ هناك افتقارا تاما لأي "نموذج" في الساحة الفلسطينية الآن. وينطبق الأمر على أغلب البلدان العربية، وعلى كل الشباب الطامح للتغيير.
كان أبو عمر، قد تخرج من مدرسة "الفرندز" التابعة لمجموعة "الكويكرز" المسيحية، في رام الله، وذهب العام 1952 للولايات المتحدة، ودرس الكيمياء، ثم الدكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، من جامعة هارفارد. وقام بالتدريس في جامعة برينستون، وجامعة واشنطن في سياتل، قبل أن يتخذ قراره بالانضمام لحركة "فتح" نهاية الستينيات، لأنّها، كما كان يقول، الحركة الأوسع التي يمكن أن تضم الجميع، وتؤثر في القطاع الأوسع. ولينتهي الأمر -بعد مهام قيادية عديدة، أداها مرتديا أبسط الملابس، ومستقلا سيارات الأجرة من دون امتلاك سيارة كباقي القيادات- باختفائه هو وعدد من زملائه المناضلين وهم في مهمة نضالية في البحر، العام 1976.
كانت رسالة الدكتوراه التي أعدها، في هارفارد، ونُشرت منتصف التسعينيات، بالإنجليزية والعربية، بتقديم من إدوارد سعيد، وبعد تقييم وثناء عليها من أحد أهم أساتذة الشرق أوسطيات؛ ألبرت حوراني، هي عن "السياسة والوحي: الماوردي وما بعده". وكما قال د. نبيل شعث وآخرون في الندوة سالفة الذكر، كان حنا يدرك ويهتم بأثر الإسلام في تحريك الجماهير. ويقول شعث إنّ من أسباب انضمام ميخائيل لـ"فتح"، ما قال إنّه "مسحة إسلامية" كانت لديها، مقارنة بباقي الفصائل، وأهمية هذا للجمهور. وتحدث بعض من في الندوة عن كيف كان ميخائيل يتحدث بلغة بسيطة، قريبة للشارع، ولكن بأفكار عميقة، تستند لأعمال ونقاشات يجريها مع كبار المفكرين العالميين الثوريين. ومن الطرائف التي ذكرها أحد تلاميذه، وهو أحمد أبو غوش، كيف كان يعلمهم تبسيط الأفكار لتلائم أبسط فلاح وعامل، ويقول لهم، مثلا: يمكنك إخبار الفلاح أنّ هناك مقولة أفضل من مقولة "اسأل مجرب ولا تسأل حكيم"، من نوع "اسأل حكيما (طبيبا) مجرّبا".
لكن ميخائيل ذاته يعتبر رمز ما يسمى التيار الفيتنامي داخل حركة "فتح". وهو تيار ماركسي يستلهم تجربة الثورة الفيتنامية. وكان ميخائيل يواظب على تثقيف الكوادر، ويكثر من الحديث عن الاستغلال والطبقات في المجتمع. وكان يفكر ويعمل على تأسيس حركة عربية ماركسية.
ميخائيل لم يكن الوحيد في هذا المزيج بين الإسلام والماركسية. فمثلا، كان في حركة "فتح" ذاتها، تيار آخر يسمى التيّار الماوي (نسبة إلى ماو في الصين)، نشط في النصف الأول من السبعينيات، مستلهماً تجربة الثورة الصينية. وبعض رموز هذا التيار، ومنهم المنظّر الأساسي منير شفيق، انتقلوا بعد الثورة الإيرانية للفكر الإسلامي، حتى إنّ شفيق، المسيحي الماركسي القومي، السابق، انتقل للدين الإسلامي، وكان من رموز تأسيس حركة "سرايا الجهاد الإسلامي"، التي حافظت على علاقة خاصة شبه عضوية مع حركة "فتح"، وكان هذا الانتقال الفكري مبرراً، أيضاً، بأنّ الثورة الإيرانية أوضحت كم يمكن للإسلام تحريك الجماهير.
كان الشعور بأنّ الفلسطينيين جزءٌ من ثورة أممية عالمية، أو عالم ثالثية، وأن الإرث الإسلامي أساسي، ويشكل نبراساً للكثيرين. وكان هناك نماذح الثورات الجزائرية، والفيتنامية، والصينية. وقد جاء لحركة "فتح" إسلاميون وماركسيون عرب وعالميون. ورغم التخبط والتشتت الذي كان موجوداً حينها، فإنّه كان هناك أُسس ونقاط بداية للتفكير بشأنها وحولها. وهذا كان أمراً موجوداً في بلدان عربية عدة. لكنّ ما تفتقده الساحتان الفلسطينية والعربية الآن، وجود مثل هذا النموذج.
ليس مستحيلا تطوير نموذج ثوري، وعربي، وفكري خاص، سواء ما يتعلق بفلسطين، أو عموماً ما يربط بين الشأن الفلسطيني، وباقي الشأن العربي.
-الغد