لكل دين طريقته، ولكل طائفة طقوسها، انعكاساً للتراث الخاص، وللتاريخ المتراكم، وديمومة التمسك بها ضرورة للحفاظ على الذات، وطالما أنهم من أتباع الديانات السماوية، فالكل مجمع على أن الواحد الأحد هو الله لا غيره، وأن أنبياءهم حاملو رسائل السماء نحو هداية البشر، وحُسن معاملتهم مع أنفسهم ومع غيرهم، وإن اختلفت أدوات الاتصال وطرق التعبير، فالحصيلة واحدة أننا بشر شركاء في الحياة على هذه الأرض، وفيها كما يقول شاعر الفلسطينيين محمود درويش " فيها ما يستحق الحياة ".
في فلسطين، لم تكن المرة الأولى التي يهب فيها رجال الدين المسيحي نحو نجدة إخوانهم من المسلمين فكلاهما في خندق واحد، ومعاناة واحدة، وتسكنهم تطلعات الأمل الواحدة، يعيشون وطنهم الذي لا وطن لهم سواه كانوا ولا زالوا وسيبقون، هكذا كان المطران كابوتشي، وهكذا أدى واجبهم المطارنة إيليا خوري وميشيل صباح وفؤاد طوال، ويؤديه رياح أبو العسل وحنا عطا الله، ويعقوب قرمش وغيرهم.
ليست المرة الأولى التي يرتفع فيها أذان الكنائس الفلسطينية رداً على محاولات إسكات صوت المسجد، وفي مواجهة جرائم المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وإجراءاته التعسفية، وسياساته العنصرية، فقد سبق لقس كنيسة غزة مانويل مسلم أن دق أجراس كنيسته لخمس مرات في مواعيد الأذان اليومية لتنبيه المسلمين بمواعيد صلواتهم وتأديتها وإقامة الصلاة في رحابها، من الفجر حتى العشاء بديلاً للمآذن ولمساجدهم التي دمرها قصف جيش الاحتلال في حروبه الثلاث على غزة 2008 و 2012 و 2014.
لقد أرسى القس مانويل مسلم تقليداً ووضع مدماكاً في تأكيد الشراكة، والأخوة، والمواطنة الفلسطينية بين المسلمين والمسيحيين، معبراً عن معاناتهم المشتركة، وتطلعاتهم المتكاملة، من أجل الخلاص من الاحتلال ونيل الكرامة والحرية والاستقلال.
رجل الدين المسيحي الذي أذن عبر الكنيسة في عاصمة فلسطين، القدس، كما فعل رفاقه في بيت لحم والناصرة وكنائس فلسطين في كافة القرى والمدن المشتركة، في مناطق 48 ومناطق 67، دللوا وأكدوا أنهم شعب واحد موحد ضد الاحتلال، وضد الاستيطان، وضد الصهيونية، وضد تهويد أرض الفلسطينيين وأسرلتها، لأن أذان الكنائس صوت الحق، صوت الله الواحد، صوت الحرية التي لا تعرف التفرقة بين البشر، بين القوميات وبين الأديان، بين ألوان الجسد، فالإنسانية أصلها وتراثها من جذر واحد، وإن اكتسبت التعددية انعكاساً لتعددية الحياة، ذلك أن كرامة الإنسان ولدت مع أنفاسه، ولن تتوقف إلا بتوقف الحياة، وإسرائيل والصهيونية ومشروعهما في تهويد فلسطين وأسرلتها مآله الفشل والهزيمة، ويبقى الإنسان والحرية والكرامة عنوان فلسطين ومضمونها.
التكامل والتعاضد والتجانس بين المسلمين والمسيحيين ومعهم الدروز في فلسطين، يحتاج إلى انحيازات يهودية معبرة عن ضرورة وعي هؤلاء أن مصيرهم مرتبط بمصير الشعب العربي الفلسطيني بمكوناته، وبمستقبله، فالصهيونية وأدواتها ومشروعها الاستعماري حتى ولو كانت متفوقة الآن بحكم الدعم والإسناد الأميركي وتغطية الطوائف اليهودية المتنفذة في العالم لصالحه، ولكن من الضرورة معرفة أن هذه عوامل متحركة غير ثابتة إلى الأبد، ولو سألنا أين هو الاتحاد السوفيتي ومن قبله بريطانيا العظمى ودولة الخلافة العثمانية، وغيرها من دول كانت أكبر من جغرافيتها وتتفوق على جيرانها وأقرانها ولكنها ذوت وتلاشت لأنها لم تسدد ما عليها من استحقاقات لمواطنيها أو لمن عاش في ظلها وتحت حمايتها ؟؟ .
المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي يُعاني من ظاهرتين تحملان بذور تراجعه وانحساره وهزيمته : الأولى أنه لا يوفر المساواة والاحترام والكرامة للمسلمين والمسيحيين والدروز أسوة باليهود، ولا يُعامل العرب كما العبرانيين، ولا الفلسطينيين كما الإسرائيليين، فالتمييز والعنصرية هما عنوان سلوكه الفظ في التفريق بين المواطنين، أما الثانية فهي سلوك الاحتلال العسكري وبناء المستعمرات للقادمين من اليهود الأجانب على أرض الفلسطينيين في مناطق الاحتلال الثانية عام 1967، وممارسة كل أنواع الاحتلال والبطش بسكان البلاد من شعبها من الفلسطينيين مما لا يترك أي مجال من التفاهم أو الشراكة أو الأمن للمواطن الفلسطيني ولا يترك له أي خيار سوى خيار المقاومة للظلم ولإجراءاته الاحتلالية العسكرية، الأمر الذي يجعل من المكونات الفلسطينية موحدة الإرادة والعمل والتطلع في مواجهة هذا المشروع الاستعماري الإسرائيلي ومقاومته، وهذا ما يفسر أذان الكنائس وتعاطف بعض الإسرائيليين مع معاناة الفلسطينيين والبحث عن الشراكة معهم.
العليا لشؤون الكنائس تعقب على تصريحات "بن غفير"
04 أكتوبر 2023