كما في أعوام كثيرة سابقة ستقوم الأمم المتحدة بجملة من النشاطات تنفيذاً لقرارها الذي يعتبر التاسع والعشرين من هذا الشهر، تشرين الثاني من كل عام، يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وذلك انسجاماً مع قرارات كثيرة تؤكد التزام الأمم المتحدة بحقوقٍ للفلسطينيين على أجزاء من أرض وطنهم.
وبالتزامن وربما لبضعة أيام قبل وبعد الموعد الذي حددته الأمم المتحدة، من المتوقع أن يقوم الكثير من المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني على مختلف الصعد والانتماءات الوطنية بنشاطات في الاتجاه ذاته، ناهيكم عما يقوم به الفلسطينيون من نشاطات داخل وخارج الوطن المحتل.
عاماً بعد آخر يتضح أن شعوب الأرض حتى في الدول المتحالفة مع إسرائيل تبدي تعاطفاً أكبر وأوسع ما يعكس وعياً متنامياً إزاء حقائق الصراع الشرق أوسطي وفي القلب منه القضية الفلسطينية.
من الطبيعي أن تكون استجابة الدول والمنظومات الرسمية متأخرة عن وعي جماهيري.
المسألة طبيعية، فلقد جرى خلال عقود طويلة تجهيل وتسميم وعي الشعوب بشأن حقائق الصراع في المنطقة.
ولفترة طويلة أيضاً بدت إسرائيل وكأنها ضحية لرغبة العرب في الانتقام من اليهود، واستهداف ما يعتبرونه واحدة الديمقراطية.
ومع أنظمة عربية شمولية وغير ديمقراطية، كان من الصعب جداً مقاومة التضليل والتحريض والتزييف الإسرائيلي الذي استند إلى مساعدات ضخمة من قبل مؤسسات رأس المال الغربي الإعلامية والفكرية.
اقتضت مواجهة الحملات الإسرائيلية عقوداً وتضحيات كبيرة حتى أخذت المجتمعات الغربية خصوصاً تقترب من حقائق الصراع، وسيحتاج الأمر إلى مزيد من الوقت ومزيد من التضحيات حتى ينضج وعي تلك المجتمعات وتتغير طبيعة التعاطي مع فرقاء الصراع.
خلال تلك العقود وما سيأتي من السنين تتكفل إسرائيل باستفزاز المجتمعات التي كانت تسرح وتمرح فيها، للوقوف على حقيقة الدولة التي تقدم حكوماتهم الدعم لها من الضرائب التي يدفعها المواطن لتحسين الظروف المعيشية في بلده.
على أن انزلاق الدولة التي حظيت بدعم أنظمة وشعوب الدول الرأسمالية نحو العنصرية والتمييز ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط، وإنما بين الأصول العرقية والقومية والجنسية عند اليهود. هذه العملية التلقائية التي تتطابق مع المواصفات التي وضعها رواد المشروع الصهيوني لا تكفي وحدها لإتمام عملية التغيير والوعي العالمي.
إسرائيل تتصرف كدولة مارقة فوق القانون الدولي، وتعبر عن عنجهية واضحة، لكن بعض الفلسطينيين مع الأسف هم أيضاً يلحقون بقضيتهم ضرراً بالغاً حين يتصرفون بعنجهية بعيداً عن منطق الضحية.
كان المناضل الفلسطيني الكبير المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي يحذر كل الوقت من عنجهية الخطاب، ويحث على أن يقدم الفلسطينيون أنفسهم كما هم باعتبارهم حقيقةً ضحايا المشروع الصهيوني، وضحايا سياسات الدول الغربية التي تدعم عدوانية الدولة العبرية.
مواطنو الدول الغربية بشر يتأثرون وهم حساسون تجاه الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال والنساء من الشعوب الأخرى، وهم حساسون إزاء المخاطر التي تهدد السلام العالمي وتهدد استقرار مجتمعاتهم بسبب ما تكبدوه من خسائر ضخمة ودمار هائل عبر حربين عالميتين.
مواطنو الدول الغربية حساسون إزاء انتشار العنصرية والفاشية ومظاهر التمييز، ولذلك فإن مسألة الوعي إزاء ما تعنيه دولة الاحتلال وما تقوم به ضد الشعب الفلسطيني وضد مواطنيها، هذه المسألة فقط مسألة وقت، لكنها عملية في الأساس تعود إلى حقيقة أن التاريخ يصحح مسيرته واعوجاجاته مرات يقتضي الأمر وقتاً قصيراً، لكنه يقتضي وقتاً طويلاً حين يتعلق بصراع كالذي يرتبط بمشروع كالمشروع الصهيوني.
وعلى الرغم من أن الوضع الفلسطيني بكليته يعاني الأمرين، ليس فقط بسبب الاحتلال وإنما أيضاً بسبب الصراعات والانقسامات والاختلافات الداخلية، إلا أن المجتمعات الغربية وسواها تبدي استعداداً جيداً للاستجابة، وكأن التضامن مع الشعب الفلسطيني قد خلق آلياته الداخلية.
قبل بضعة أيام كانت النقابات الأوروبية قد أجرت نقاشات واسعة في إطار تصعيد المقاطعة، ليس فقط للاستيطان ومنتجاته، وإنما أيضاً للسياسة الإسرائيلية، تلا ذلك نقاشات وإقرار توجهات من قبل البرلمان الأوروبي الذي تتسع فيه أكثر فأكثر دائرة المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، ونحو اتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية بحق إسرائيل ومستوطنيها.
حركة المقاطعة الاقتصادية التي تقودها مجموعة البي دي اس باتت تؤرق منامات الدوائر الإسرائيلية التي رصدت مبالغ طائلة وقامت بحملات مكثفة لوقف التأثير المتنامي لهذه المجموعة وتحركاتها، غير أن المؤشرات الواقعية تثبت فشل المخططات الإسرائيلية.
لقد تجاوز نجاح البي دي اس كل وسائل المقاومة الإسرائيلية، حتى أخذت تنتشر بصورة متزايدة بما في ذلك في المجتمع الأميركي، وتشمل مقاطعة أكاديمية ونقابية واقتصادية ودعاوى قضائية... إلخ.
نتذكر خلال العدوانات الإسرائيلية على قطاع غزة، أن النشاطات التضامنية في بلاد الأجانب كانت قوية وواسعة، لأن محركات كثيرة اشتغلت عليها من المؤسسات الإسلامية إلى الوطنية والليبرالية حتى بات الفلسطيني يخشى من أن يطغى عنوان غزة على العنوان الوطني.
نحتاج لتفعيل المؤسسات والجاليات والسفارات الفلسطينية في الخارج، حتى يصبح العمل التضامني هو الأساس فيما تقوم به هذه الجهات.
غير أن الأصل والأساس هو ما ينبغي أن تقوم به السلطات والفصائل ومنظمات المجتمع المدني في أرض الوطن.
بالحديث عن ما يجري على أرض الوطن ينبغي الاعتراف بأن الأوضاع ليست على ما يرام وأن الفلسطينيين ليس فقط لا يقومون بواجباتهم، بل إن رسائلهم وخطابهم للعالم مشوه ومشوش وسلبي.
حين يطغى على الخطاب مشهد الانقسام والتشظي وسوء الأداء والفساد والصراع، واختلاف البرامج والوسائل والأهداف، فإن الحصيلة تكون ممن هم مستعدون ومتحمسون للتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، الحصيلة ستكون مشوشة وضعيفة وربما سلبية أحياناً.
خطورة المسألة لا تتوقف عند كيفية استقبال المتضامنين الأجانب للرسالة، بل إن الشعوب العربية وقواها المجتمعية تتعرض هي الأخرى للتشوش الذي يحدث في الخطاب الفلسطيني والتشرذم الذي تتحمل القوى السياسية المسؤولة عنه، هذه القوى التي تصرف الكثير من الوقت والجهد والرصيد في الخلافات والاختلافات والصراعات الداخلية غير المفهومة وغير المقبولة.
يترتب على القوى الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ومواقفها وانتماءاتها أن تدرك بأن التاريخ لا يقوم بتصحيح مسيرته دون فعل القوى ذات المصلحة في التصحيح، وإلا اقتضت عملية التصحيح زمناً أطول وأثماناً أكبر.