ها قد أوشك تشرين على الانتهاء، ولم تشهد البلاد هطول المطر.. الأمر الذي ينذر بموسم جاف، سيأتي بعد صيف حار وقائظ.. والموضوع ليس له علاقة بغضب الله، كما يروج البعض، وكما هو في المثل الشعبي: "من قلة هدانا انقلب صيفنا شتانا".. فالله سبحانه أكرم من أن يحبس المطر عن عباده، كما أن الأمطار تتساقط على بلاد الكفار طوال السنة.. الموضوع مرتبط بما يُعرف بالتغير المناخي.
كنتُ قد كتبت في "الأيام" قبل سنة بالضبط، مقالاً عن قمة باريس للتغير المناخي، والتي عقدت في تشرين الثاني 2015، وقد ختمته بالإشارة لعدم التفاؤل بإمكانية تحقيقها أهدافها المعلنة، والتي لخصَتها في الحد من ارتفاع الحرارة بـ"درجتين مئويتين"، ومتابعة الجهود لوقف ارتفاع الحرارة عند 1.5 درجة مئوية، ومراجعة التعهدات الإلزامية (كل خمس سنوات)، وزيادة المساعدة المالية لدول الجنوب (100 مليار دولار سنوياً).
قبل أيام، انتهت في مراكش بالمغرب الدورة 22 لقمة المناخ (تُعرف اختصاراً بِـ كوب 22)، بمشاركة 196 دولة وحضور ما يقارب 30.000 مشارك، من بينهم 8000 من المجتمع المدني و1500 صحافي. والتي تأتي استكمالاً لِـ"كوب 21" التي أحرزت بعض التقدم، ولبلورة مختلف المحاور المنصوص عليها في اتفاق باريس.
وقبل مراكش، وقّعت نحو 60 دولة على اتفاقية المناخ في نيويورك، في نيسان 2016، تأكيداً لمقررات قمة باريس، ولكن بغياب قادة كبريات الدول الملوثة للبيئة في العالم، وهي أميركا والصين وروسيا والهند.
وفي بيان مراكش، كما هو في بيانات القمم السابقة، أكد المجتمعون أن التغيرات المناخية تعتبر أهم تحديات هذا القرن، لما ينتج عنها من ارتفاع في حرارة الأرض (بسبب ونتيجة الاحتباس الحراري)، ونقص في الموارد المائية، وتلاشي الأراضي الزراعية، وحدوث الكثير من الكوارث الطبيعية، وبالتالي تفاقم الفقر والاضطرابات الاجتماعية والأمنية، واحتمالية نشوب الحروب، وتضاعف موجات الهجرة من الجنوب إلى الشمال.
ومع أن هذه الكوارث لم تشكل حتى الآن صدمة قوية تثير الانتباه، ربما لأنها تزحف بصورة تدريجية وغير ملحوظة إلى حدّ ما؛ حيث إن التغييرات الطفيفة تبدو على المدى القصير "حالة اعتيادية"، يصفها العالم الأميركي "جاريد دايموند" بِـ"الاعتيادية الزاحفة"، والكثير من الناس لا تعترف بها (الرئيس الأميركي الجديد يعتبرها خدعة إعلامية)؛ بيد أن خطورتها ستتضح وستتفاقم في المدى القريب جداً.
ربما يكون من حسن الطالع، أن هذه القمة عُقدت هذه المرة في المنطقة العربية، فلربما يتنبه قادتها، وقادة العالم لطبيعة المشاكل البيئية والمناخية التي تهدد شمال إفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص، حيث يعيش 550 مليون نسمة؛ وحيث ترتفع معدّلات درجات الحرارة بشكل متزايد سنة بعد أخرى، خاصة في فصل الصيف، وحيث باتت مناطق شاسعة منها غير صالحة للسكن، وحيث تتضاءل الموارد الطبيعية والمائية بشكل خطير، مع زيادة ملحوظة في التصحُّر، فمصر مثلاً، التي كانت في السابق "سلة خبز" لم تعد تنتج ما يكفي من الغذاء لسكَّانها، ولم تعد الحكومة قادرة على دفع ثمن وارداتها من الحبوب.
في معهد "ماكس بلانك" للكيمياء، أجرى باحثون، وباستخدام المحاكاة من خلال الكمبيوتر، تجربة للنظام البيئي المناخي في المنطقة العربية، وتوقَّعوا بناء على ذلك أن يرتفع معدَّل درجات حرارة المنطقة حتى منتصف القرن الحالي بنحو أربع درجات مئوية، كما توقعوا زيادة عدد الأيَّام الحارة للغاية (مع درجات حرارة قصوى تبلغ 46 درجة مئوية فأكثر) خمسة أضعاف، أي من 16 يوماً، كما هو الآن إلى 80 يوماً في السنة، وعندئذ لن تنخفض درجات الحرارة في الليل عن 30 درجة مئوية، وإذا استمرت انبعاثات الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري من دون رادع، فإنَّ الباحثين يتوقَّعون أن يصل عدد الأيَّام الحارة للغاية حتى 200 يوم في السنة في بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط في نهاية القرن الحالي، وفي هذا الصدد يتوقَّع العالِم "جوس ليليفيلد" أنَّ الكثير من سكان المنطقة سيغادرونها عاجلاً أم آجلاً". (شتيفان بوخن، ترجمة: رائد الباش، موقع قنطرة، تشرين الثاني 2016).
ومع ارتفاع درجات الحرارة سيتطاير المزيد من الغبار الجاف، وستزداد العواصف الرملية، وبالتالي سيزداد التلوث بالجسيمات الغبارية، إضافة للدخان العادم بنسبة 70% خلال العقدين القادمين، خاصة في كلّ من السعودية والعراق وسورية.
وما يدعو للتخوف أكثر هو أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قد ازداد بنسب تُنذر بالخطر، إذ إن العالم لم يشهد هذه المستويات من ثاني أكسيد الكربون في الهواء مثلما هو الحال في العام الماضي 2015، ويتَّضح هذا من أحدث تقرير حول الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري، أصدرته مؤخراً المنظمة العالمية للأرصاد الجوية WMO في جنيف، وبحسب هذه المنظمة التابعة للأمم المتَّحدة، فإنَّ متوسَّط تركيز غازات الاحتباس الحراري بلغ في العام 2015 ما نسبته 400 جزء في المليون، وبهذا فقد تم بلوغ قيمة ذات دلالات رمزية.
وتغيُّر المناخ العالمي، وبالذات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تتحمل مسؤوليته الأولى الدول الصناعية الكبرى، والشركات العابرة للقارات، والدول المصدِّرة للنفط، التي تميل غالباً إلى لعب دور المُعَرقِل في مؤتمرات المناخ، ووضع مصالحها الاقتصادية في تصدير النفط قبل ضرورة الحدّ من انبعاثات الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري. وزبائنهم في أميركا الشمالية وأوروبا والصين واليابان يساهمون من خلال استهلاكهم المفرط للوقود الأحفوري أكثر من جميع الدول الأخرى في تفاقم هذه المشكلة.
في مؤتمر باريس، طُرح حل شامل يتلخص باتباع مسارين متلازمين، الأول هو الحد من انبعاث الغازات الدفيئة، وذلك باستخدام التقنيات منخفضة الكربون، والحد من التلوث البيئي، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وحفظ الغابات، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة الخضراء المتجددة، والمسار الثاني هو التكيف مع آثار ومظاهر التغير المناخي، وتقديم الدعم اللازم لدول الجنوب، بيد أن هذا الحل ما زال يتعثر بخطاه، رغم ادعاءات قادة العالم بأن مقررات قمة المناخ لا رجعة عنها.
لننتظر نتائج قمة مراكش، فلا نملك إلا الأمل.