عبد المنعم حمدان "الصّادِقْ" وما هتَفَ لِغَيرِها!

عبد المنعم حمدان
حجم الخط

بروفايل بثينة حمدان

 

هَالَهُ وأترابه مشهد الهجرةِ الثانية عام 1967، فركضوا ليقنعوا الناس بالعودة، وعدم رفع الراية البيضاء. كان يعي المصير المُنتَظَر للمُهاجرين المُهَجّرين من حياة مُعدَمَة؛ بقميصٍ وبِنطال وحِذاءٍ واحد طوال العام.. لكنه لم يعرف أنه سيقضي حياته بعد ذلك مُهَجّراً مُغتَرِباً لـسبعَةٍ وعشرين عاماً، وأن عودته ستكون مصيرية! "سأعود، سأعود.. سأعود" وهذا ما أراده عبد المنعم حمدان "أبو المنذر" القيادي المنتمي لحركة التحرير الوطني "فتح"، الذي قدَّم نفسه للحركة وهو في العشرين، انطلق من الأردن وتنقل بين ليبيا وسوريا والسعودية وتونس، عمل مع قيادات تاريخية كالشهيدين ماجد ابو شرار وكمال عدوان، ومحمد غنيم "أبو ماهر".. هو عضو قيادة التعبئة والتنظيم في حركة فتح، ومفوض عام التوجيه الوطني سابقاً... بلغته العربية الفصيحة أخذني لأرسُمَ سيرةَ حياتِه.. فإذا بقصة حركة عملاقة تُلَوِّنُ مساحة اللوحة وكأَنّها تقول: هو ابنُ فَتْحٍ... وما هتَفَ لِغَيرِها..

 

"إني وبي دمعُ الرجال" لاجئٌ!

 

كان طفلاً ابن العام حين حملته أخته الكبرى الراحلة آمنة (12 عاماً) ابان النكبة، وركضت به خارج بلدة عنابة قضاء الرملة، مع من ركضوا تحت أزيز رصاص الطائرات، تفرقوا عن العائلة، والتقوا في إحدى المُغُر، لتعود آمنة وحيدة إلى البيت وتُحضِرُ بعضَ الطعام، وتُغلِقُه جيداً وتطعم الدجاجات كما اوصتها الوالدة.. وهكذا تفتحت عيونُه على الرحيل، مثل هذا الشعب الراحل والحي والسائر قسراً. كَبُرَ في مخيم الجلزون، تعلّم المشي والقراءة واللعب، فيه تعرّف حُلُماً على قريتٍه، بحث في ذاكرتِه الرضيعة عن صورة لها، بلا جدوى، لكن أحاديث والديه والجيران طبَعَت صورتها في قلبِه، والدته فاطمة من الطيرة ووالده محمد "أبو علي". لا ينسى حين جاءهم أحد الأقارب في الستينات وأخبرهم عن زيارته عنّابة، وأن كرم الزيتون تحول إلى لوز. بكى والده صادِحاً بِصَوتِه أرجاءَ البيت الصغير، مناجياً الماضي الجميل، بكاء أبٍ ولاجيء أحكم إغلاقَ بابَ بيتِه مؤمنا بالعودة، بُكاءُ من أحنى زمنَ اللجوء ظهرَه ومات مبكراً. نهض عبد المنعم (20 عاماً) لمواساة والده فقال: "بكفي يابا، كل البلد راحت!". كان يسمع عن أراضي العائلة والبيت الواسع، ثم ينظر إلى الغرفة الصغيرة الممنوحة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، أضيفت إليها أخرى بعد وقت..

 

"بُقجَةُ" الفرح!

 

اتحد واصدقاءه في شلة ضمت صبحي الخطيب وفتحي أبو صرار وصلاح عبد الله، لم يُفَرقهم سوى الاحتلال، بصعوبة تواصلوا، لكن صبحي حاول الوصول الذي غادر وهو في العشرين واستقر في استراليا. فُجِع باتصالي لكن سُرعان ما أوضحت له أنها مقابلة سريعة، فَرِحَ وفي خاتم الاتصال أخبرني أنه أجمل يوم في حياته لأنه تحدث عن حبيب العمر، الذي التقاه فيما بعد وهما على عتبة الستين، هما أبناء مخيم، وقال: لا أحد غيري يناديه "العبد"، هو الصادق المتسامح، ومعزته لدي لا توصف. بحث صبحي عنه كثيراً، سمعته أنه في الشام وأنه في السعودية.. وعبر صديق وصفت له مخيطة أخيه الأكبر علي حمدان، تواصل أخيراً مع عبد المنعم، قال له: كيفك عبد؟ فهتف "عبد": انت صبحي!". وأضاف: "أتيت مرتين لأراه، وسآتي من أجله فقط".

 

كانت "الشلة" تمشي عشرات الكيلومترات، يدرسون كتبهم في الطريق، وتبقى الواجبات الكتابية للمنزل. ارتبط فرح العائلة بالوجبة الأسبوعية الدسمة، فيما أُوجِزَ فرحُ أطفال المخيم بـِ"بُقجَة" وكالة الغوث وما فيها من ملابس جديدة وحذاء، وكأنه عيدٌ في غير وقته يرسُمُ لوحته المُلونة، فيما قد تمر الأعياد باهتة، فيغادر الفرح بعض أطفال المخيم إلا من رحم ربي.. عمل في الاجازة الصيفية في المطاعم، أما الثقافة والتسلية فكانت في "نادي الجلزون" التابع للوكالة، يمارس الألعاب الرياضية ومازال إلى يومنا هذا، وفي المكتبة عاش عالمه الخاص، ساعد في الاختيار صديقه الأكبر عارف الأعرج المعروف بكتابته الشعر. وجد نفسه بين كتب احسان عبد القدوس، طه حسين، واحتفظ بعشقه الخاص لـ"عبقريات" العقاد، والتي ملأته شعوراً بالكرامة والعزة التي كان يبحث عنها في أرجاء المخيم.

 

"زراعة" العلم!

 

لم تعد مهنتهم الزراعة منذ أن هُجّرَت الأرض، فاعتنوا بمحصولهم العلمي فهو أملهم الوحيد، لكن اخيه علي اضطَر لِتَرك الدراسة والعمل في الخياطة وتحمل مسؤولية العائلة، فيما درس عبد المنعم في مدرسة الجلزون، وفي الثالث الاعدادي جاء مدير المدرسة محمود الغَبّيش ليخبر الطلبة بإجراء مقابلات في رام الله للقبول في مدارس الزراعة، وافق وزملاءه، رَغبَةً في الذهاب إلى رام الله، فلا هم يحلمون بالزراعة وليس لديهم الأرض! وقال: "قابَلونا، ثم نسينا، ثم وأكلنا بوظة ركب، وكزدرنا في شارع الارسال، وكأنه عيد". لكن الأمر انتهى بقبول طالبين من مدرسة الجلزون هما عبد المنعم وفتحي، ضحكا وكأن الأمر لا يعنيهما، ثم قَبِلا تحت ضغط الأهل لأن الدراسة في "الربّة الزراعية" في الكرك تعني وظيفة مضمونة بعد التخرج، حصل على دبلوم الزراعة، وتقدم بعد شهر للثانوية العامة ونجح. يقول صديقه صبحي: "لم يكتفِ بالدبلوم، دائما تطلعات العبد تسبق من هم في جيله". حصل على الوظيفة التي لم يطمح إليها في مدرسة دير دبوان، لكنه استقال والتحق بدار المعلّمين برام الله.. وكأنه اصرار شخصٍ تنبأ، بأنها الفرصة الاخيرة لاستكمال تعليمه.

 

"بينج بونج" الاسرائيلية!

 

ابان حرب الـ 1967 خرج وأصدقاءه لحث الأهالي على العودة، ودعوا لاضراب المدارس احتجاجاً على الحرب، ونجحوا، وأصبح مطلوباً للاعتقال، فحضرت آليات الاحتلال ومدرعاته للمخيم واعتقلوا سبعة، كاد يكون بينهم لولا تشابه اسمه مع آخر أكبر سناً، وحين اكتشف الأمر أخبر الاسرائيليون مختار المخيم بأن المطلوب في سن الشباب. احتج المختار بدعم ورفقة رؤساء بلديتي رام الله والبيرة آنذاك على طريقة الاعتقال لدى الحاكم العسكري الاسرائيلي، والذي أخبرهم انه قريباً سيطلب منهم احضار عبد المنعم. وهذا ما حدث بعد شهر، وليلتها سهر المخيم في بيت حمدان تضامناً.

 

ذهب مع مختار المخيم إلى الحاكم العسكري، وحقق معه، ونفى عبد المنعم كل الاتهامات، وانتهى التحقيق بقول الحاكم غاضباً: "نحن نلعب البينج بونج، كأنني رميت الكرة وانت رديتها، والكرة الآن بيدي، بأي لحظة أستطيع سحقها".

 

الرحيل الأسود.. في أيلول!

 

بعد شهر سُمح لأهالي المعتقلين بالزيارة، وفور عودتهم أخبروا عائلة عبد المنعم بأنه محور التحقيقات، وقريباً سيتم اعتقاله، عندها قررت العائلة أن عليه الرحيل، فلابد لابنهم الثاني أن يكمل تعليمه سيما بعد ضياع الفرصة على علي، رفض عبد المنعم، إلى أن رحل تحت الضغط، فغادر في التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1967. هذا هو موعد الرحيل، تم الاتفاق مع سيارة لنقل الخضار من الضفة الى عمّان، وشاء القدر أن يكون المشهد الأخير وهو في الطريق؛ بأن رآى والده يعمل في تعبيد طريق نابلس وقال: "آلمني المشهد الذي بقي في ذاكرتي إلى الأبد". وفي اليوم التالي جاءت قوات الاحتلال لاعتقاله، فاعتقلوا والده، وحققوا معه عدة مرات إلى أن اقتنعوا بأنه خارج البلاد فعلاً.

 

"هايتكس" فتح..

 

في عمان التقى زميلَ الدراسة عمر الشكعة، استذكرا النشاطات اللامنهجية في الكرك والتنافس بينهم في اللجان الثقافية والاجتماعية والسياسية بين فريق ينتمي لحزب البعث وآخر للقوميين العرب، بينما كان عبد المنعم ناصري بلا انتماء حزبي، طلب عمر لقاءه مساءً في أحد المقاهي في شأن سياسي، فالتقيا وكان معهم فيصل عبد الهادي وعمر طبيلة، وبعد حوار عُرِضَ على عبد المنعم الانتماء لتنظيم فدائي لهم انشأوه في نابلس، فقال لهم ابن العشرين: "في نابلس كان التنظيم سري، لكننا اليوم في عمان، وفِكِر "فتح" يملأ الصحف، لماذا لا ننتمي لها؟". وهذا ما حدث، وكي يتواصلوا مع الحركة انتدبوا أكبرهم الاستاذ طبيلة إلى بلدة الهامة السورية حيث قواعد فتح العسكرية، ومن هناك تم ربطهم بأمين سر الحركة في الأردن سميح أبو كويك المعروف بـ"قدري"، وتسلّم عبد المنعم التنظيم في المدارس والجامعات.

 

ترددوا على مقر عُلّقَت على بابه يافطة: "شركة هايتكس"، لا يعرفون شيئاً عنها، لكنهم يديرون التنظيم عبرها، وكي ينشروا أعلام فلسطين في شوارع عمان استغلوا مسرحية "كلنا فدائيون"، وكتبوا على الأعلام تفاصيل المسرحية. بدأت فتح بنشر قواعدها العسكرية في الأغوار، إلى أن حدثت معركة الكرامة وتضافر الجيش الأردني والفدائيون الفلسطينيون لصد هجوم الجيش الاسرائيلي ونجحوا.

 

.. هكذا رفع عرفات الحطة

 

التقى به أول مرة في إحدى معسكرات التدريب في الشونة الأردنية، كان الجو حاراً فرفع القائد حطته العسكرية، ليُفاجأ المتدربون أنه أصلع، كشف لهم عمقه الأملس، وانسيابه مع المكان، كان القائد، وبينهم صار القائد الانسان، قال لهم وقتها: ثورة حتى النصر لا تعني تحرير فلسطين، بل ثورة حتى تقوم الوحدة العربية. شاهد عبد المنعم تطلعات أبو عمار الكبيرة، والتي تطال مستقبل الثورة الفلسطينية و"كان محقاً فالتخلص من اسرائيل يعني تحقيق الوحدة".

 

القيادة.. تبدأ من السعودية

 

أتم تعليمه في دار المعلمين في وادي السير بصعوبة، فقد وصل مع مجموعة منن أرادوا متابعة تعليمهم بعد توقفه بسبب الحرب، رفضت وكالة الغوث استقبالهم ثم قبلت بعد الاحتجاج، تخرج وذهب للعمل معلماً في المملكة السعودية، وهناك ربطه قدري بالتنظيم. عملوا باسم اللجان الشعبية للثورة الفلسطينية والتي أسستها الحكومة السعودية. نظموا نشاطات كثيرة كان يذهب ريعها للجان الشعبية، منها مسرحية "كلنا فدائيون" والتي نفذها مجموعة من الأساتذة ومنهم عبد المنعم، وفي العرض فوجؤوا بانفعال أحد الحضور من مشهد تعذيب الجندي الاسرائيلي للفدائي، فهجم على الجندي وضربه، متأثراً بالمشهد.

 

قضى وقته بين التعليم والعمل الفتحاوي، إلى أن أصبح عضو قيادة اقليم السعودية.

 

"كمال" الثورة وأبو "شرار" الاعلام

 

بعد التخرج ذهب إلى السعودية وكان يمضي اجازاته في عمان، فعَمِل مع القائد والكاتب والمفكر الشهيد ماجد أبو شرار في جريدة فتح في مكتب الاعلام، أشرف على طباعتها ليلاً، وتصحيحها لغوياً نهاراً، وطبعاً بلا مقابل مادي، واختارته المفوضية ليمثلها لدى قبيلة العدوان والتي أصيب أحد افرادها برصاصة خاطئةـ ذهب لتطييب خاطرهم، واستقبل بحفاوة لا ينساها. ابتسم وهو يروي لنا ومسح رأسه بيده مستذكراً ذلك اليوم وهو في مقتبل العمر. كان الشهيد كمال عدوان مفوض الاعلام، ويتواجد في المكتب على فترات متقطعة، متنقلاً بين بيروت وعمان، وحين يحضر تغلب شخصيته التي "تعج بالكبرياء" على ضجيج المكان ويحل الهدوء. وفي إحدى المرات جاء للمفوضية وفد من الحزب الشيوعي لنشر بيان له في جريدة الحركة، صادف ذلك وجود الشهيد عدوان، فأخبره عبد المنعم بالأمر وكان رده: "إياك نشره واذا سألوك ليش: قل لهم اعترفوا بالعمل الفدائي في برنامج الحزب أولاً". عدوان وابو شرار برأي عبد المنعم رجال دولة، عمل العدو على قتلهم جميعاً قبل أن يصل إلى الرئيس عرفات.

 

الشغف "المستحيل" للتفرغ!

 

استقال وغادر عام 1971 السعودية مقرراً التفرغ، لكن اعتقال أخيه الأكبر "علي" الذي كان من قيادات العمل الوطني في الضفة، وغياب المعيل، جعل التفرغ مستحيلاً، وذهب إلى الشام مع الثورة التي كانت قد غادرت عمان، وابتعثته الحركة للعمل استاذاً في ليبيا. تابع نشاطه التنظيمي في الحركة، وكلف بالاشراف على التنظيم في شرق ليبيا ومع اواخر السبعينات انتخب عضو لجنة إقليم، فقد تميز تنظيمياً ونقابياً، إلى أن بدأت المشاكل مع نظام القذافي الذي اراد نشر كتابه الأخضر، عبر الفلسطينيين المنتشرين في أنحاء العالم، وبدأ تشكيل لجان شعبية، واعتقل من رفضها، وبينهم عبد المنعم، وبالصدفة كانت زوجته وابنه البكر منذر في زيارة للشام، وحين عادوا، مكثوا عند ابن عمه، إلى أن أطلق سراح المعتقلين بعد ثلاثة أشهر، ومُنِحوا ثلاثة أيام للرحيل، باعت العائلة ما استطاعت ورحلت، وتابع الاصدقاء بيع بقية الأثاث.

 

التفرغ أخيراً.. والانشقاق الكبير!

 

رحلوا إلى الشام وكان أبو ماهر غنيم استلم زمام مكتب التعبئة والتنظيم، فطلب منه الالتحاق بالمكتب، لِما لديهم من خبرة تنظيمية، وهكذا تفرّغ في الحركة أخيراً، وسكن في دُمّر، وعمل مع عثمان ابو غربية وصخر حبش ومحمد الأعرج ابو الرائد وابو العبد العكلوك، ومن هذا المكان انطلق أول مرة لمتابعة أقاليم فتح في الخارج وأولها اليمن ولاحقا الهند، وآسيا، وأوروبا الشرقية وأمريكا. بدأت بوادر الانشقاق في الحركة في خطاب أبو موسى العملة خلال احتفالات الثورة الفلسطينية في عدن، والتي نظمت لتثبت للعالم أن الثورة مستمرة ومازلت قوية سيما بعد الخروج من بيروت، اغتال المنشقين سعد صايل في البقاع، واستولوا بدعم سوري على كتيبة في البقاع، ومكاتب فتح في الشام، ولم يعد عرفات وقيادته مرغوباً بهم فيها. وفي العاشر من أكتوبر خرج عبد المنعم كعادته إلى المكتب مساءً، شاهد العساكر يحيطون بالمكان، ومع ذلك اقترب وصعد الدرج فناداه أحد زملاءه الذين انشقوا، وأخبره بذلك متلعثماً، فما كان إلا أن دفعه إلى الحائط غاضباً، وغادر إلى مكتب الدراسات التابع للحركة، وهناك استغرب زملاءه أنه تُرِكَ حياً بعد اغتيال آخرين من الزملاء هناك.

 

كانت فترة قاسية على كوادر الحركة، الذين احتفظوا بموقف دفاعي حتى في البقاع، فشعار فتح كان: البنادق كل البنادق نحو العدو الاسرائيلي.

 

كان أبو عمار يتنقل بين الشام ولبنان، وبعد اجتياح بيروت ذهب إلى اليونان ومن هناك انتقلت القيادة إلى تونس، وبقي جزء من المقاتلين في الجنوب والبقاع وطرابلس، وتآمر الانشقاق عليهم لطردهم من هذه المواقع، حوصروا وضُرِبَت المخيمات، وجاء ابو عمار من تونس إلى طرابلس عبر البحر الأبيض المتوسط معرّضاً نفسه للطيران السوري والاسرائيلي ووصل بسلام طرابلس ورفع معنويات الثوار، فصمدوا بقيادته وابو جهاد الوزير وصدوا هجمات المنشقين، وبتدخل عربي غادر الثوار إلى عدد من الدول العربية، بحماية فرنسية، فيما توجه عرفات إلى بورسعيد عبر قناة السويس وهناك قلب الطاولة بلقاءه الرئيس المصري حسني مبارك، في الوقت الذي كان العرب يقاطعون مصر حتى أن مقر الجامعة العربية انتقل إلى تونس، وبعد اللقاء عادت لمصر مكانتها.

 

"الجواز" المغضوب عليه

 

حين وصل الأردن قادماً قسرا من الوطن، ولنشاطه التنظيمي وتفتيش المخابرات الأردنية لبيته أوقفت السلطات الأردنية تجديد جوازه الأردني، إلى أن أعلن الملك حسين عام 1974 عن حرق الملفات، وتم تجديد جوازه، واستطاع زيارتها قادماً من السعودية، وطلب من أخيه استصدار تصريح له لزيارة الضفة أول مرة منذ الخروج القسري لسبع سنوات، تخوف علي من ذلك حتى أنه حين عبر الجسر، رقص على الجسر فرحاً بأنه لم يعد مطلوباً لدى الاحتلال.

 

أعيد فتح ملفه في الأردن وتوقف تجديد الجواز، حيث كانت المخابرات قد فتحت له ملفاً باسم خاطيء، وبالتالي تجدد جوازه، إلى أن صححه أحدهم عام 1976 وأعلمه بذلك، فضحك عبد المنعم وقال له: "شكراً!". فأعيد وقف التجديد حتى عقد مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني في عمان عام 1984، وحرص الزعيم عرفات على ادخال أكبر عدد وقتها بين أعضاء ومراقبين، وكان هو مراقباً. وفي إحدى زياراته لعمان من تونس لاحقاً اصطدم مع المخابرات الأردنية حين دار الحديث عن قيادات فلسطينية ومنها ابو عمار، وكان رده كفيلاً بإيقاف تجديد جوازه مرة ثالثة، بل وحرمت زوجته من الجواز.

 

.. إلى تونس

 

وصف "أبو المنذر" اللجنة المركزية للحركة بأنها أشبه بلجنة أطباء من مختلف التخصصات تستحضر للحالات الحرجة، مشيرا إلى الدعم الأمريكي اللامحدود لاسرائيل والذي زاد القضية الفلسطينية تعقيداً، لذا كان الأمر بحاجة إلى الكفاءة والذكاء في الطرح. كان حين يرى ابو جهاد يشعر أن العمل العسكري يسري في دمه، أما أبو إياد مسؤول الأمن الموحد فلم يعمل معه بشكل مباشر، وكان منتدباً للتواصل مع جهازه عبر اللواء توفيق الطيراوي والراحل عبد السلام الكسواني "أبو نادر".

 

انطلق مكتب التعبئة في تونس في تسيير وفود لزيارة الأقاليم للتوجيه والارشاد والمتابعة، بدأت الرحلة من اليمن وتركيا، وساهم بتنظيم مؤتمرات الأقاليم فيها وحل مشاكل الجالية والطلبة هناك، ودعمهم مادياً ومعنوياً، ولا ينسى في أحد المناطق التي علم فيها بطالب خسِرَ صحته وتعليمه بسبب سلوكه فيما عائلته تنتظر عودته طبيباً، جلس معها عدة مرات، في حديث طويل وهادئ أمام المرآة التي كشفت حاله، ولاحقاً أخبره الجميع بتحسن سلوكه وتخرجه.

 

"قسرية" الرحيل.. والعودة!

 

هاهي الفرصة تلوح ليعود أخيراً مع توقيع اتفاقية أوسلو، كان يرى أن مكتب التعبئة يجب ان يكون اول العائدين قبل القيادة، لترتيب الوضع التنظيمي لعلمهم به في الأرض المحتلة، باع أثاث المنزل ورحلت العائلة إلى عمان، لكن أبو ماهر غنيم رفض العودة تحت الراية الاسرائيلية، ورفض عودة حمدان، واضطرت العائلة لاستئجار منزل في عمان، عاشت فيه بلا آثاث إلا الضروري لمدة عام، وفي إحدى زيارات أبو عمار إلى تونس التقى بحمدان فاستغرب وجوده وأراد التدخل، لكن "أبو المنذر" طلب أن يحل الموضوع وحده، مؤكداً أنه سيدخل الوطن في اللحظة المناسبة، واضطر فعلاً لتقديم استقالته من التعبئة، ليصبح حراّ باختياره، واختار العودة.

 

المصارعة المسالمة

 

"الصادق" عاش في عبقريات العقّاد سيرة الخلفاء، وفي الواقع عمل مع قيادات تاريخية، هو برأي أبو ماهر غنيم "رجل المهمات الصعبة" و"المدمن على العمل والعطاء"، لكنه أمام التلفاز يعيش شغفه بمتابعة رياضة "المصارعة"! توازن صنعه بذكاء مع شخصيته المسالمة.

 

وبين فقر المخيم والغربة الاجبارية تمسك بحبل الوصل للكل الفلسطيني، حبل العودة، لم يتردد بالعودة، هانت الوظيفة، ولم يهُن الوطن، هذا ما تريده حركة فتح، شخصية تدرك الوحدة، تذوقها صغيراً، ولم يلامس طموحه أكثر من الثورة والوحدة وحُلُم التحرير، وفي كتابه الأخير حول أسرار النجاح في التعبئة والتنظيم، اعتذر لعائلته عن تقصيره القسري بسفره الدائم، وكان شوق أبناءه له يدفعهم لترك رسالة في جيوب قمصانه في حقيبة السفر، تضمنت بالطبع هذه الكلمات: "اشتقنالك بابا"... يعود من سفره ليمنح دقائق من الحنان، مقابل عمر قضاه في الثورة.