لم يأت الانشغال الإسرائيلى بأولوية الأخذ بالرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، نحو الدخول فى صياغة هندسة جديدة أمريكية- إسرائيلية لإقليم الشرق الأوسط، وبلورة نظام إقليمى شرق أوسطى جديد يجعل إسرائيل هى الدولة «القائد» و«المهيمن» على شئون الإقليم وإدارة قضاياه وملفاته من فراغ. فهم يدركون من ناحية أن هذا الرئيس تربطه بإسرائيل روابط من القيم السياسية والدينية المشتركة تجعله مستعداً لفعل أى شئ تراه إسرائيل مصلحة عليا لها. كما أنهم يعرفون من ناحية ثانية أن هذا الرئيس ليس له مشروع سياسى أو غير ملتزم بمشروع سياسي، فهو من خارج مؤسسة الحكم الأمريكية ويفاخر بأنه من خارج هذه المؤسسة ولن يكون مضطراً للعمل من داخل دوائر التزاماتها مع الحلفاء التقليديين فى الشرق الأوسط، وهذا يجعله أكثر تحرراً من قيود الالتزامات الأمريكية مع هؤلاء الحلفاء، وأكثر استعداداً للعمل من داخل المشروع الإسرائيلي. لكن ما هو أهم هو أن الإسرائيليين باتوا على ثقة وعلى يقين بأن هذا الزمان هو زمانهم، وأن التدمير الذى حدث والذى يحدث الآن على أرض العرب هو أهم هذه المؤشرات، وأن ما أضحى بين الدول العربية وبعضها البعض، بل وحتى ما بين القوى والمكونات السياسية والاجتماعية داخل الدول العربية من نزاعات وصراعات مصالح يفوق كثيراً ما بين هذه الدول العربية وإسرائيل، وأنه بسبب كل هذه الصراعات العربية العربية لم يعد هناك عاقل يفكر فى تأسيس جبهة عربية لمحاربة إسرائيل أو مناصبتها العداء، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، وأن إسرائيل فى اعتقادهم، لم تعد مجرد حليف محتمل بالنسبة لبعض الدول العربية فى مواجهة العدو الإيرانى المشترك بل ربما تكون قد باتت حليفاً مؤكداً.
يعى الإسرائيليون هذا كله، لذلك هم منشغلون بتوظيف الرئيس الأمريكى المنتخب وإدارته الجديدة ضمن المشروع التاريخى الإسرائيلي، أى فرض السلام الإسرائيلى على العرب، السلام الذى يجعل فلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر دولة يهودية خالصة وينهى إلى الأبد أية مطالب عربية فى فلسطين، ويفرض إسرائيل قوة إقليمية مسيطرة على الشرق الأوسط، لكن على الجانب الآخر العربي، وبكل أسف، كان التعامل مع صدمة فوز ترامب بالرئاسة غير مكترث بأى من هذه القضايا والاهتمامات ذات الأولوية القصوى بالنسبة للإسرائيليين.
فقد غابت فلسطين نهائياً عن أولوية الاهتمامات عند جميع العرب سواء كان السعداء منهم أو التعساء بفوز دونالد ترامب، كل كان يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح وتحقيق ما يأمله من مكاسب مع هذا الرئيس. لم ينشغل أحد مثلاً بما اعتبره الرئيس المنتخب بـ «الصفقة المستحيلة» لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، ولا بما أعلنه من نية لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والتعامل مع القدس باعتبارها عاصمة موحدة وأبدية للدولة اليهودية. ولم يكترث أحد بالسباق الإسرائيلى الجنونى لتحقيق مكاسب فى غفلة من إدارة أوباما الراحلة وإدارة ترامب الآتية، وبهدف فرض أمر واقع جديد على هذه الإدارة قبل تسلمها مهامها، سواء بإقرار الكنيست الإسرائيلى (البرلمان) لما سمى بـقانون «إسكات الأذان» تحت دعوى منع استخدام مكبرات الصوت لبث رسائل دينية، وتحت ضغط مزعوم مفاده «معاناة السكان من ضجيج الآذان» أو سواء بإقرار قانون حمل اسم «تسوية البؤر الاستيطانية» وهو القانون الذى يجيز البناء على أرض مملوكة للغير، ضمن مساعى الحكومة الإسرائيلية للتوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية.
لم يهتم أحد بأى من هذه الكوارث، فالذين أسعدهم فوز ترامب انشغلوا بالبحث عن إجابات لأسئلة واهتمامات أخرى من نوع هل سيصدق ترامب وعوده بمحاربة الإرهاب؟، وهل سيعلن جماعة الإخوان جماعة إرهابية؟، والذين صدموا بفوزه راحوا يبحثون عن إجابات لأسئلة تشغلهم من نوع هل سيتحالف ترامب مع بوتين فى سوريا فعلاً ويدعم بقاء بشار الأسد؟ أم أن تحالفه مع إسرائيل سيمنعه من دعم سياسة تؤدى إلى دعم النفوذ الإيرانى فى سوريا؟ وهل سيصدق ترامب فى تهديده بإلغاء الاتفاق النووى مع إيران؟ وهل الأفضل أن يلغى هذا الاتفاق أم يتصدى للأطماع التوسعية الإيرانية؟ فعلى الرغم من أن إسرائيل كانت قاسماً مشتركاً فى معظم هذه التساؤلات وما تعبر عنه من أولويات واهتمامات ومصالح فإن أحداً لم يهتم بمخاطر توسع النفوذ الإسرائيلي، ومخاطر احتمال ضياع فلسطين وحقوق شعبها فى عهد دونالد ترامب.
وسط الظلمة جاء التحدى صارخاً ومدوياً من عمق فلسطين يعلن وبأعلى وأنقى صوت بأن فلسطين باقية ولن تزول، وأن بقاء فلسطين معناه أيضاً أن العروبة باقية ولن تزول. ففى غمرة النشوة الصهيونية داخل الكنيست الإسرائيلى بإقرار قانون «منع الأذان» وإذا باثنين من النواب العرب فى الكنيست النائب أحمد الطيبى والنائب طالب أبو عرار يقفان على منصة هذا الكنيست ويصدحان بأعلى صوتيهما برفع الأذان «الله أكبر» تحدياً لقانون اعتبراه مهمشاً للديانات وحرية العقيدة.
المفاجأة الأكبر كانت من كنائس مدينة «الناصرة» مدينة السيد المسيح عليه السلام، عندما قررت كنائسها أن ترفع الأذان من على مناراتها، وما هى إلا سويعات وحتى دخلت كل كنائس فلسطين داخل الكيان الصهيونى (فلسطين المحتلة عام 1948) فى سباق لرفع الأذان، وأخذ صوت «الله اكبر.. الله اكبر» و«أشهد أن لا إله إلا الله» يردده الرهبان والمطارنة محاطين بحشد مهيب من زملائهم من رجال الدين المسيحي، وعلى مرأى ومسمع من جموع المؤمنين الذين أموا الكنائس فى تظاهرة تعبر عن مستوى عميق من الوعى الوطنى والإدراك العالى لمخاطر السياسات العنصرية والاحتلالية، وتجسيد صلابة الهوية الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني. وبعدها كانت كل البيوت تطلق مكبرات الصوت بالأذان دون تمييز بين ما هو بيت فلسطينى مسلم أو فلسطينى مسيحي، كلهم حملوا راية التحدي، ليعلنوا أن فلسطين هى دائماً التى تحمل فجر الميلاد بالإرادة والوعى بأن هذه الأمة باقية وأن فلسطين هى درتها مهما كان هوان ومذلة كل المتخاذلين.
عن الاهرام