مثلما كشّرت عن أنيابها لأوروبا في الملف الأوكراني، وأبدت ردود فعل تساوي الفعل الأوروبي والأميركي إزاء الحرد من السيطرة على شبه جزيرة القرم، فإن روسيا ماضية في دعمها للنظام السوري إلى مرحلة نهاية النزاع هناك.
منذ بداية النزاع السوري كانت موسكو تشدد على دعم النظام السوري، لأنها ترى في وجوده مصلحة استراتيجية لها في منطقة الشرق الأوسط، وتأكيدا على تصاعد نفوذها نحو إعادة صياغة شكل النظام الدولي، هذا الأخير الذي يشهد في ملفات دولية حساسة، تغيراً بالفعل نحو ظهور أقطاب دولية تمهد لكسر الاحتكار على السيطرة الأميركية للنظام الدولي بعيد الحرب الباردة.
منذ بداية النزاع السوري كان الهدف الأميركي لهذا البلد يتصل بتحكم النزاع فيه «بالريموت كنترول»، تجسيداً لنظرية الشرق الأوسط الجديد الذي يسير على قاعدة الفوضى الخلاقة، التي سبق وأن أكثرت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس من طرح هذا الموضوع.
لم يكن في وارد الإدارة الأميركية فتح جبهة جديدة في سورية، لأن ذلك قد يعني الدخول في دائرة واسعة من المعارضين في الداخل والخارج، خصوصاً وأن للإدارات الأميركية المتعاقبة تاريخا من الكذب في الإعلان عن الحروب والكشف المؤخر عن مآرب خاصة كما هو حال العراق.
الهدف الأميركي من سورية جاء لإضعافها وإسقاط هيبة الدولة السورية وإسقاط النظام السوري، غير أن التدخل الروسي العاجل قدم لسورية عكازاً يمنعها من السقوط، وقد شهدنا قرار التدخل العسكري الروسي قبل أكثر من عام، الذي أدى بالفعل إلى تقوية النظام السوري.
لولا روسيا لكانت سورية في مهب الريح، ليس على الصعيد السياسي فحسب، وإنما أيضاً على الصعيد العسكري، لأن وقت إعلان التدخل العسكري الروسي تزامن مع تدهور في الوضع العسكري للقوات الحكومية السورية التي تشتت قواتها في أكثر من منطقة في الداخل السوري.
بطبيعة الحال يفسر التدخل الروسي مصلحة قوية في «تطويب» سورية وعدم فقدانها، ليس لكونها حصنا للقوات الروسية في البحر المتوسط فقط، وإنما لأنها تعكس تنامي القوة الروسية وعودة الزخم الروسي عبر استخدام القوتين الناعمة والخشنة.
في الملف السوري يمكن القول إن روسيا أحسنت إدارة هذا الملف، لأنها إن عاجلاً أم آجلاً ستحصد ما تزرعه في سورية، ويفسر ذلك اختلال موازين القوى العسكري لصالح القوات الحكومية السورية التي باتت تسيطر على أكثر من ثلثي شرقي حلب.
ليس إطراء لما حققته روسيا من إنجازات في المربع السوري، وإنما بقراءة الواقع ومؤشرات النزاع، فلعله يبدو واضحاً أن موسكو متمسكة بحقها في التواجد داخل الأراضي السورية، غير أنها تعتبر الجغرافية السورية معرضا كبيرا لعرض آخر ما توصلت إليه من تقنيات عسكرية.
نعم لقد استفادت موسكو من النزاع السوري، فبإدارتها للنزاع مع واشنطن، فرضت نفسها على الخريطة الدولية بقوة، وهذا الأمر جعل دولاً كثيرة لا ترتاح للسياسة الأميركية، تذهب نحو الدب الروسي وتدخل معه في عقد شراكات سياسية واقتصادية واستراتيجية.
تركيا واحدة من الدول التي لم تتحمل انقطاع حبل العلاقة مع روسيا على خلفية إسقاط طائرة للأخيرة في السماء السورية، على الرغم من أن أنقرة لديها موقف حاد ومغاير للموقف الروسي في التعامل مع الملف السوري.
ناهيك عن حجم استفادة تركيا من روسيا في موضوع السياحة وتحريك عجلة الاقتصاد التركي تحديداً، فإن أنقرة تعتقد أن موسكو هي الضامن الوحيد لها في موضوع عدم وجود حزام كردي متين يهدد أراضيها وسلامة ترابها الوطني.
وهي حين تذهب للدب الروسي برسالة اعتذار، فإنها تفعل ذلك من أجل مصلحتها العليا، كما هو حال مصلحة روسيا في ضرورة بقاء سورية موحدة بإدارة الرئيس بشار الأسد، ولذلك فإن ما يحكم العلاقات الدولية لا يتعلق بالحب بين الدول، بل هو نتيجة مصالح دولية.
ولعل ما يجري الآن في حلب من تقدم للقوات الحكومية السورية، يعكس خوف الدول الغربية وعلى رأسها الإدارة الأميركية الحالية، من أن تسيطر تلك القوات على كامل حلب، وبالتالي الإعلان مقدماً عن الانتصار في هذا النزاع.
عدد من الدول الأوروبية ذهبت نحو التفكير في توسيع محاسبة روسيا وسورية، عبر فرض عقوبات اقتصادية وأخرى تمس شخصيات مهمة، أما الإدارة الأميركية العاجزة عن حل النزاع السوري فيما تبقى لها من وقت، فإنها مكتوفة الأيدي بين نية التدخل العسكري أو وضع الملف السوري خلف ظهرها.
من الطبيعي أن يكون للتدخل الأميركي العسكري ثمن كبير في سورية، وهو الموقف الذي يخشاه ترامب من أن يقود ذلك إلى إعلان حرب عالمية ثالثة، ولذلك يبدو من المستبعد أن تأتي واشنطن في وقت متأخر وتتدخل بتوسيع وجودها العسكري في سورية.
حديثاً خرج تقرير أعده ديمقراطيون وجمهوريون من الحزبين يشير إلى أن على الولايات المتحدة أن تتدخل بقوة في سورية من أجل تسوية النزاع هناك، ويبدو أن هذا التقرير يقول بصريح العبارة إن على واشنطن منع سيطرة القوات الحكومية على حلب، لأن ذلك سيعني فوزاً للنظام السوري وتكريس خريطة سياسية لا وجود للمعارضة المعتدلة فيها، أو أنه وجود مهمّش.
سواء تدخلت واشنطن أو لم تتدخل في الملف السوري، فإن الوقائع توضح أن روسيا إن عاجلاً أم آجلاً ستحقق إنجازاً نوعياً في سورية، من شأنه أن يحسب لها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومثلما ترفض الولايات المتحدة تدخل أي دولة في ملف تقوده هي، فإن روسيا تعتقد أن الملف السوري ينبغي أن يظل في جيبتها.
والخلاصة هنا أن سورية التي تعاني من نزاع مفتوح ولم يهدأ بعد، لن تتمكن من لملمة جراحها في عام أو عامين، بل إنها ستبقى خاضعة للمظلة الروسية من باب توفير الحماية لها، وفي ذات الوقت الاستفادة المتبادلة في إعادة بناء البنى التحتية والاقتصاد السوري.