نقترب من بداية عام 2017، و الدول تعد لما هو قادم دوليا، وإقليميا، ووطنيا، وفقا لافتراضاتها وأمالها وأهدافها.
لا يختلف أحد على أن العالم يمربمرحلة اضطراب، بعد أن فشلت الدول العظمى فى تهيئة اوضاعها بعد انتهاء الحرب الباردة وعصر القطبين، وانهيار الاتحاد السوفيتى الايدولوجى الشيوعي، و اهتزاز مكانته بعد التحول الى روسيا الوطنية الواقعية الطموحة، فضلا عما شهدناه من تجاوز للولايات المتحدة واعضاء الاطلنطى فى تعاملاتها مع القطب الجريح، بنشر صواريخهم فى دول حلف وارسو السابق مثل بولندا، ومحاولة اجتذاب بعضهم اعضاءه إلى الحلف الذى كان يعاديهم و يستهدفهم.
وبالتوازى مع هذا اخفق المجتمع الدولى فى الادارة الحكيمة والواعية لعصر العولمة، بكل ما يحمله من فرص هائلة، و تناقضات اقتصادية حادة ، وما فرضته منظومة الاتصالات الحديثة،من تفاعل سريع لمجتمعاتناالغائب عنها الدراية اللازمة والتجربة للتعامل مع التحديات الجديدة، المتنوعة، و السريعة.
فوجدنا مشروعات صغيرة تتطور و تسوق منتجاتها بسرعة البرق وعبر البحار والقارات وتخلق ثروة فاحشة، وانما فى المقابل ازدادت الفوارق بين الطبقات فى مجتمعاتنا.
ووفرت التكنولوجيا فرصا و مجالات لم تكن فى الحسبان لصالح المجتمعات والانسانية، بينما ألغت التكنولوجيا أيضا العديد من الوظائف للأقل كفاءة أو الاضعف تقنيا.
ومع فتح الأسواق و سرعة انتقال الأفراد والأموال والافكار، انتشرت الامراض الوبائية، مثل انفلونزا الطيور والايبولا، اتسعت الجريمة المنظمة، وانتقلت الافكار المتطرفة، و المنظمات الارهابية عبر اسيا و الشرق الاوسط، وافريقيا، واوروبا والقارة الامريكية وغيرها.
وخلق كل ذلك شعورا من القلق و عدم الامان المجتمعي، ساعد على تنامى التيارات السياسية الشعبية اليمينية،التى ترفض الغير، وتبرز الصفة العرقية على الوطنية،او الوطنية على الاقليمية او الدولية، وهو ما شهدناه او نتابعه فى الولايات المتحدة، والنمسا، وفرنسا، وبريطانيا، وهولندا، والفلبين. وقد يعقب ذلك المزيد من التطورات فى ايطاليا وغيرها من الدول.
ولا يختلف هذا مع ما نشهده فى الشرق الاوسط، فمع المشاكل الناجمة عن غياب الحكم الرشيد، أخطأت دول المنطقة فى الاعتماد المبالغ فيه على الدول الاجنبية فى قضايا الامن القومي، اهتزت معها دور الريادات العربية،من الجزائر غربا ومصر وسوريا والعراق والسعودية، فاهتزت دفة العرب وشكك الكثيرون منا فى هويتهم العربية، و بدأت بعض شعوب المنظمة تطرح هويات عرقية و مذهبية و ثقافية على حساب الهوية العربية الوطنية،وجاء كل ذلك لصالح دول غرب اسيا غير العربية وتحديدا تركيا وايران و إسرائيل، واصبح العالم العربى كما نعرفه على حافة هوية وجودية.
هذه هى الارضية المهتزة التى على اساسها ندخل العام الجديد، وتدفعنا للتساؤل عما هو قادم لنا ولغيرنا فى العلاقات الدولية.
شهدت الولايات المتحدة أقوى دول العالم تسونامى سياسيا، بانتخاب دونالد ترامب رئاسة البلاد، وهو مرشح غير تقليدى خارج الصندوق والقالب السياسي، فى تطور يعبرعن رفض المجتمع السياسيين الامريكيين.
ومهما حجمته المؤسسات السياسية الامريكية بعد توليه السلطة، أو شكلته الاحداث الدولية وأعادت ترتيب اولوياته، ستظل النكهة الامريكية خلال الاعوام القادمةTrumpesque، صارخة، صريحة، وأحيانا تصادمية فى تعاملاتها، و على العالم الاعتياد على الصوت الامريكى العالى و العلني.
سيفرض الواقع السياسى والمسئولية الرئاسية على ترامب تهذيب بعض ممارساته وتعديل بعض مواقفة الانتخابية، مراعاة للمصالح المتعددة داخل الولايات المتحدة، وعلاقتها الخارجية الحالية،
وبدء بالفعل تغيير نغمته حتى قبل توليه المنصب، بتخفيف لهجته ضد اتفاقية التغيير المناخي، واتفاقية التجارة لامريكا الشمالية مع كندا والمكسيك، والتراجع عن الدخول فى حرب عملات مع الصين، ومنع كل المسلمين من دخول الولايات المتحدة ، وسيتراجع تدريجيا من تهديده بالغاء الاتفاق النووى مع ايران، ويخفف من حدة تصريحاته تجاه عددمن الدول العربية وعلى رأسها المملكة السعودية.
وانما يخطئ من يتصور انه سيتراجع عن توجهاته الانتخابية، وتعكس فلسفة امريكا اولا الكثير من تعييناته فى مناصب الادارة الجديدة توجهات انعزالية، و عدم الارتياح للغير بسهولة فى فكر الادارة القادمة، أى ستكون السياسة الخارجية الامريكية نتيجة مخففة لتصريحات المرشح المنتخب Trumplite، او نسخة اشد Trumpism وفقا للحالة و الظروف.
وستظل سياساته متسقة مع شخصيته، و ادارته العلاقات مع الدول من منظور صفقات متبادلة، تهدف الى تحقيق مكسب مادى سريع او الحد من الخسائر على الولايات المتحدة، ، والسمة المشتركة فى كل ذلك هو التفاوض مع منافسيه وتحميل شركائه وحلفائه المزيد من المسئولية فى توفير الحماية وتحمل نفقات أى عمل مشترك.
و يعنى ذلك تحديدا، تفاوض الولايات المتحدة مع روسيا حول اوكرانيا، وعدم المبالغة بطلب تغيير الامر الواقع الذى فرضه الروس.واستمرار دعم الولايات المتحدة للحلف الاطلنطى مع تحميل الدول الاوروبية نسبة اكبر من المسئولية والتمسك ببنائهم لقدراتهم العسكرية.
والانسحاب من عدد قليل و الاكتفاءبتعديل بعض الاتفاقيات التجارية المنضمة اليها الولايات المتحدة دوليا او قاريا مع اسيا او مع دول الجوار لشمال امريكا.
واتخاذ مواقف امريكية اكثر حده تجاه الارهاب و تقديم مساعدات اضافية فى هذا المجال دون وضع أرواح أمريكية فى مواجهة مباشرة الا اذا اقتضى الامر ذلك. وعدم الترحيب و المتابعة الدقيقة والتضييق على تيارات الاسلام السياسي، أمنيا و فكريا، والتعاون الامنى الدولى الاستراتيجى فى هذا المجال.
والسعى للتوصل الى تفاهم امريكى روسى حول إدارة العملية للحالة السورية، اذا تعذر التوصل الى حل سياسى للقضية، مع الاستعداد للتعامل مع النظام السورى والمعارضة على الاقل فى المرحلة الانتقالية.
وقد يشمل أو ينعكس هذا التفاهم الامريكى الروسى على منطقة الشرق الاوسط بأكملها، حيث يصعب تصور حل ادارة الملف السورى دون ايران، و غنى عن التنويه ان موقف ترامب الانتخابى من ايران شديد الحدة، وهو موقف اغلب الشخصيات التى اختارها حتى الان للانضمام لادارته، وانما لا اتوقع الغاء الاتفاق النووى لعدم فاعلية هذا الاجراء فى ظل عدم استعداد الدول الدائمة العضوية الاخرى واوروبا فرض عقوبات جديدة على ايران، وقد يكون البديل التشدد فى متابعة تنفيذ الاتفاقية، وطرح مواقف دولية جديدة لضغط مسالة تخصيب اليورانيوم.
ستظل الولايات المتحدة داعمة لأمن دول الخليج العربي، وتتصدى لإيران سياسيا، وانما سيقتصر الدعم ضد المخاطر الوجودية فقط مع تحميل دول المنطقة تكلفة توفير الغطاء الامنى الامريكى بشكل اكبر، ومطالبتها بتحمل تأمين نفسها من الاخطار الهامشية.
هذا و ستواصل الولايات المتحدة المشاركة ببعض القوات الخاصة فى ليبيا فى سياق مكافحة الارهاب، وقد يزيد عددهم او الدعم المالى والعسكرى قليلا بالتعاون مع مصر و تونس، و انما ستنتظر من مصر والجزائر وتونس تحمل الحمل العسكرى والانسانى الاكبر فى ليبيا.
ولن يشهد المسار الفلسطينى الاسرائيلى تحولا جذريا، فرئيس وزراء اسرائيل لا يؤمن بحل الدولتين، و الرئيس الامريكى الجديد ينظرلكل القضايا و الصفقات واقعيا بما يعكس ميزان القوى التفاوضية، و هو فى صالح اسرائيل، و ليس على اساس احترام الحقوق القانونية غير قابلة لتصرف الشعب الفلسطينى فى وطن و دولة مستقلة، لذا فمن المستبعد ضغطه على اسرائيل لتوفير صفقة يمكن لأى طرح فلسطينى قبولها.
اما اوروبا، فاعتقد ان العام القادم سيكون عاما حاسما فى الحفاظ على الحلم الاوروبى او بدء انفراطه ازاء الضغوط اليمينية الاوروبية المتنامية فى عدد من الدول الاوروبية تشمل هولندا، والنمسا ، وفرنسا، والمانيا، وقد شهدنا انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبى وبمواقف اقل ما يمكن القول عنها انها غير انسانية، وتقتضى الصراحة وصفها بالعنصرية...
وهو هوس يشكك فى مصداقية اوروبا و دعواتها الانسانية، و سلط الاضواء على ازدواجية معايرها فى الشدائد ضعف مواقفها تجاه تركيا،و تجاوزاتها الاخيرة، تخوفا من ان تفتح تركيا حدودها لعبور اللاجئين، وهو ما هدد به الرئيس اردوجان على الملأ.
وستسعى روسيا فى 2017 لتثبيت المكاسب التى حصلت عليها فى اوروبا و الشرق الاوسط، بالوصول الى حلول وسط مع الولايات المتحدة تحديدا، و من خلالها مع اوروبا، والعقبة الرئيسية ازاء ذلك هو حذر القوات المسلحة الامريكية بصفة خاصة، و التى ما زالت ترى ان روسيا هى الغريم و العدو الرئيسى للولايات المتحدة.
وسعت الصين لتثبيت ريادتها و كلمتها فى اسيا، بعد اعلان اوباما التوجه نحو اسيا، خاصة بالنسبة لمياهها الاقليمية وقضية البحر الصينى الجنوبي.
وستنشط الصين على المستوى السياسي،فى دول الأسواق و مصادر الطاقة الصينية ، بما فى ذلك الشرق الاوسط و افريقيا و ستسعى لمزيد من التنسيق مع روسيااوما ينتظر ان يشهد العام القادم توترات متكررة فى العلاقات الصينية الامريكية، حول قضايا تجارية واقتصادية اولا،مما قد يكون له انعكاسات سلبية فى علاقتها السياسية مع الولايات المتحدة.
وتدخل تركيا و ايران و اسرائيل العام الجديد بترقب شديد، بعد ان فشلت الاولى فى قيادة العالم الشرق الاوسطى من منظور الاسلام السياسي، وستواجه المزيد من المشاكل مع انتخاب الرئيس الامريكى الجديد، وتركز الان على تحجيم القضية الكردية وانعكاساتها على السيادة التركية، وسعيا لذلك ستعمل على ايجاد توافقات جديدة مع روسيا و الولايات المتحدة والدول العربية الخليجية
واسرائيل، وتجنب الصدام الحاد المباشر مع اوروبا رغم توتر العلاقات، مع استمرار تعنتها تجاه مصر اصعب الملفات ايدلوجيا لها، الا اذا حدثت مفاجأة غير متوقعة مصريا فى جهود المصالحة الاخوانية مقابل الافراج عن المعتقلين.
واذ كانت ايران سترحب باستعداد ادارة ترامب التحاور مع روسيا و حتى الاسد حول سوريا، فسيكون تركيز ايران فى المقام الاول على روسيا، خشية توصلها للتفاهم مع الولايات المتحدة حول سوريا يحرج ايران و يجعلها تعزف منفردة، والامر الذى يضعفها اقليميا تجاه جيرانها العرب، خاصة المملكة العربية السعودية، واذا تحقق ذلك لا يستبعد اتخاذ ايران لبعض اجراءات التهدئة، وان كان من السابق لأوانه الحديث عن انفراجة فى العلاقات الايرانية العربية الخليجية.
ولن تتوقف ايران كثيرا عن احتمالات الغاء الرئيس الامريكى الجديد للاتفاقية النووية، وسيستغل اى اجراء تتخذه الادارة الامريكية الجديدة من قبل المتشددين فى ايران لجمع المزيد من الشعبية، باعتبار ان الولايات المتحدة الشيطان الاكبر و ان الانفتاح عليها وعلى العالم لم يحقق النتائج المرجوة منه.
تراهن الحكومة الاسرائيلية الحالية و منذ سنوات على ان مشاكل العرب ستعفيهم من الضغط الدولى لإقامة دولة فلسطينية، و ان وجود مخاطر مشتركة من التطرف والارهاب والمخاطر الايرانية عوامل تساعد لتدفئة العلاقات مع العرب او تطبيعها عمليا، حتى و ان ظلت رسمياعلى ما هى عليه، وينتظر ان تستمر اسرائيل على نهجها ذلك.
وستعرض دعم بعض المواقف العربية لدى الرئيس الامريكى الجديد وفى الكونجرس، مع إبعاد العرب بقدر الامكان عن الضغط من التعامل مع حل الدولتين بحجة ضرورة الاكتفاءبما هو واقعي بين اطراف غير متكافئة، لطمس اسس عملية السلام الى غير رجعة.قد يكون لهذا الطرح صداه مع الرئيس الامريكى الجديد الذى يفخر بانه صاحب اصعب المفاوضات و اكبر الصفقات.
ستشكل قضية مكافحة الارهاب و التطرف الفكرى والاسلام السياسى ركيزة العلاقات الامريكية فى المنطقة، وفرصة لكل من مصر و الامارات العربية لتطوير علاقاتها مع الادارة الامريكية التى تطالب الامارات بتحمل المزيد من التكلفة المادية لذلك، و تطالب مصر بتوسيع نطاق مشاركة قواتها العسكرية واجهزتها الامنية بما يتجاوز حدودها الوطنية، خاصة فى ظل قدراتها العسكرية المتقدمة وثقل قواتها المسلحة، و هو موقف قد لا ترتاح له الامارات نظرا للضغوط الاقتصادية او مصرنظرا للضغوط الامنية الداخلية، وإنما قد يفتح ذلك المجال لتصحيح موقف دول جامعة الدول العربية من عدم الموافقة على تشكيل قوة عربية مشتركة.
أرجو أن تستفيد الدولتان من المنظور الأمريكى القوى ضد الإرهاب، دون أن تقع فى فخ قصر العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة على قضية بعينها.
فعلى الدول العربية الخليجية الإستفادة من علاقاتها بالولايات المتحدة ورفع كفاءاتها فى مجال الأمن القومي، وتحقيق مزيد من التعاون العربى الإقليمى فى هذا الصدد.
وعلى مصر طرح شخصيتها على الساحة الأمريكية ليس فقط كقوة فعالة فى مكافحة الإرهاب ، بعد أن كانت الرائدة فى الحرب والسلام فى الشرق الأوسط، وإنما علينا طرح مصر كطرف سياسى فاعل فى حل قضايا المنطقة وكمنارة وركيزة للوسطية السياسية والمنفتحة صاحبة الرؤية والبرنامج لبناء شرق اوسط حضارى يحتذى به فى القرن الـ 21.
*وزير الخارجية المصري السابق
عن الاهرام