كم مرة اتخذت الأحداث مسارات، أو وصلت إلى نهايات ونتائج، تلتزم البدايات وتتطابق، او حتى تنسجم بدرجة مقبولة، مع منطلقاتها وأهدافها وبقيت تحت قيادة من أطلقوها؟
الإجابة السهلة هي: إما أبداً، وإما نادراً جداً.
ذلك أن الأحداث ما أن تتشكل وتفرض وجودها حتى تبدأ ببناء ديناميتها الخاصة بها، المختلفة، وربما المفترقة تماما او المتناقضة، عن دينامية انطلاقها وموجبات وأهداف قيامها.
وهذه ظاهرة عامة لا تقتصر على منطقة معينة، او على ظروف وشروط بعينها. بعد تشكل الأحداث وبناء ديناميتها الخاصة تصبح السيطرة عليها وتحديد اتجاهها وخط سيرها خاضعة لعوامل ومعطيات وظروف مختلفة ومستجدة، وغالبا مفترقة، عن تلك التي صنعت البدايات، مهما كانت طبيعة تلك الظروف والمعطيات والمستجدات.
وتصبح عندها عمليات الاستقراء والتوقع لمسار الأحداث وتعرجاته، ولصيرورتها ونتائجها مجرد تحليلات نظرية، واستنتاجات غالبا ما تفترق عن مسار الأحداث وأهداف بداياتها.
اما في الحالات النادرة جدا التي تتحقق فيها درجة من الانسجام، كما جاء بالإجابة عن سؤال الافتتاح، فان درجة الندرة ودرجة الاقتراب من البدايات تعتمد الى حد كبير على توفر شرطين متلازمين ومتكاملين:
الشرط الاول، هو درجة نضج الحالة المجتمعية وجاهزيتها للتغيير واستعدادها لتحقيقه وتحمّل أكلافه. وهذه الجاهزية لا تنبني في لحظة حدث التغيير، بل تكون قد تحققت كمحصلة لتراكم نضالي مجتمعي ينتج تطورا في وضعية المجتمع ومكوناته المختلفة وقواه السياسية والمجتمعية.
والشرط الثاني، درجة نضج قوى وهيئات المجتمع المدني وجاهزيتها واستعدادها للقيام بعملية التغيير وقدرتها على قيادتها، والحفاظ على استمراريتها. وأيضا، مستوى التوافق بين هذه القوى واستعدادها للعمل المشترك على برنامج توافقي فيما بينها.
توفر احد الشرطين وغياب الآخر او ضعفه الشديد، يمكن ان يوفر إمكانية بداية الحدث ولكنه لا يكفي لضبط مساره والوصول به إلى النتائج المرجوّة.
ان درجه الاختلاف بقدر ما تتعلق بدرجة نضج المجتمع ونضج قواه وهيئاته، فإنها تتعلق أيضا، بطبيعة أهداف حركة التغيير ودرجة إشكالياتها، إضافة إيضا، إلى مقدار تداخلها مع عوامل خارجية.
في الأحداث التي عصفت بدول عربية عدة تحت ما سميّ بالربيع العربي، ظهر اختلاف المسار والنهايات عن البدايات في كلها تقريبا، وان بدرجات وتعبيرات اختلفت في المضمون، كما في الشكل أيضا.
الحدث التونسي كان من الحالات النادرة جدا لجهة اقتراب المسار والنهايات مع البدايات بشكل ملحوظ. وذلك لتوفر الشرطين فيه: شرط نضج المجتمع المتراكم عبر عشرات السنين، وشرط نضج القوى المجتمعية وأهليتها لقيادة الحدث، وبشكل توافقي.
في الحدث المصري مثلاً، توفر الشرط الأول، شرط نضج الحالة الجماهيرية. وقد عبر عن نفسه في حراك جماهيري واسع جدا نجح في إسقاط رأس النظام بسرعة لافتة. وهو ما جعل النهايات تنسجم مع البدايات بدرجة معينة، وان لفترة محدودة.
لكن غياب الشرط الثاني فتح الباب أمام قوى الإسلام السياسي للانفراد بالمشهد والسيطرة على الحكم والعودة الى وضعية التناقض بين الحكم والجماهير، وبشكل لا يقل سوءا عما كان قائماً. ولم يتم تعديل الوضع الا بحراك جماهيري ملاييني هادر، وبانحياز الجيش لصالحه ومبادرته الى إسقاط حكم الإسلام السياسي، وهو ما أظهر افتراقاً نسبياً للنهايات عن البدايات، وأعاد الى الواجهة جدل العلاقة بين حركة الجماهير وأشواقها وبين العسكر وأساليب حكمهم، وبالذات لجهة درجة الاقتراب من الديمقراطية.
الحدث السوري، هو ابرز الأمثلة على افتراق المسار وتطور الأحداث عن البدايات والمنطلقات. فاذا كان يمكن التعامل، "من باب الجدل ولوازمه"، مع منطق البدايات، بان الأحداث كانت في بداياتها حركة مجتمعية ترفع مطالب وتنادي بتغييرات تتعلق أساساً بالأوضاع الداخلية، وبمعايش الناس وحرياتهم، مع تأكيد الحرص على وحدة الوطن والتمسك بسيادة الدولة، وعلى التعايش المجتمعي.
الا ان ضعف الشرط الثاني في البدايات، المتمثل في ضعف قوى المجتمع المدني وارتباط الجزء الأكثر تنظيما وجاهزية منها بتنظيم عابر للحدود والتزامه بفكره وبرنامجه (الإخوان المسلمين)، هو ما دفع بالأحداث وبوقت قصير جدا نحو دينامية نقيضة للبدايات وأهدافها ومطالبها، خصوصا وان ضعف الشرط الثاني تفاعل متقبلاً ومتعاوناً الى درجة الالتحاق والتبعية مع مخططات معدّة لسورية قوية وقديمة الاستهداف والتخطيط والتجهيز.
الدينامية النقيضة دفعت الأحداث باتجاه الاستيلاء على السلطة ولو على حساب تدمير الدولة، وفي المقدمة جيشها الوطني، وتقسيمها، ومهما كان الثمن من دماء أهلها وتشردهم، ومن مقدرات البلاد وإمكاناتها وتاريخها وحضارتها وتعايشها المجتمعي المميز.
كما سارعت، الدينامية النقيضة الى استدعاء التدخل الخارجي، على تنوع واختلاف مصالح وأهداف أطرافه، وسلمت له مقاليد القرار بكل الأمور، وقاد كل ذلك الى تدفق قوى الإرهاب والتطرف من مختلف بقاع الأرض.
هذه الحال للشرط الثاني هو ما كرس افتراقاً كلياً للمسار عن البدايات، وهو ما يحتّم الوصول الى تناقض تام للنتائج والنهايات، على فرض تحققها وهو أمر يبدو مستحيلا، مع البدايات ومنطلقاتها وأهدافها المعلنة.
بهذا، يسقط كلياً جدل البدايات، ويصبح تمسك البعض به ورفض رؤية المتغيرات المفصلية والحقائق الجديدة الكثيرة سياسية وعسكرية ولوجستية، ومهما كانت نوايا وخلفيات الجدل، يصبح ذلك التمسك ليس اكثر من "عناد يؤدي الى الكفر" او كمن " تأخذه العزة بالإثم". والكفر والإثم هنا هما المسّ بوحدة الوطن وسيادة الدولة ودورها، ثم المس بأمن وسلامة واستقرار المجتمع وحفظ دماء وأرزاق مواطنيه.
الأحداث الأُخرى في بعض الدول العربية، وان اختلفت مع الحدث السوري في طبيعة وشكل البدايات ثم في تفاصيل أُخرى مثل حضور البعد المذهبي والقبلي، تبقى ملتقية معه في جوهر اختلاف المسارات والنهايات المنظورة مع البدايات، وفي حجم القتل والدمار.