على مدى السنوات الست الماضية، كان من النادر أن يتمكن الخبر الفلسطيني من انتزاع حيّز له في الفضاء العربي العام، وأن ينال قدرا لائقاً من اهتمام الإعلام والعواصم والرأي العام؛ نظراً لسخونة الأحداث الجارية في المحيط المجاور، واستغراق الدول والشعوب بقضاياها الداخلية المتفاقمة يوماً بعد آخر. الأمر الذي خلق شعوراً بالترك وبالنسء لدى أوساط فلسطينية واسعة، وجدت نفسها، لأول مرة، خارج التغطية السياسية والإعلامية المنشغلة بأحداث جسام.
ولولا ما عُرف باسم "هبة السكاكين"، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على باحة المسجد الأقصى، لسقط الموضوع الفلسطيني من جدول اهتمامات العرب والعالم كله، وصار نسياً منسياً، رغم ما كانت تشهده الأراضي المحتلة من مواجهات متفرقة، واستيطان ومصادرات واقتحامات وتغولات بلغت ذروتها مؤخراً في السعي الإسرائيلي المحموم لتشريع البؤر الاستيطانية، فضلاً عن حظر رفع الأذان في مساجد القدس والضفة الغربية وأراضي الـ48.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، تحول الحدث الفلسطيني المتعلق بانعقاد المؤتمر السادس لحركة "فتح" إلى خبر ينافس على الصدارة، وينال اهتماماً عربياً لا سابق له منذ زمن بعيد؛ بدليل كل هذه التغطيات الإعلامية الواسعة، وكل هذه التعليقات المكثفة، من جانب مختلف الكتاب والمعلقين في مشرق العالم العربي ومغربه. الأمر الذي يشير، موضوعياً، إلى أن مؤتمر "فتح" على درجة عالية من الأهمية، المستمدة من أهمية "فتح" ذاتها، كأول الرصاص أول الحجارة وأول الكيان المستقل.
فقد سبق موعد انعقاد هذا المؤتمر حديث مسهب عن خلافات مبالغ بها كثيراً داخل أكبر المنظمات الفلسطينية، تحول دون التئام المؤتمر الذي تأجل مراراً؛ وأن الانقسام الذاتي يهدد بتناثر حطام الحركة التي تقود منظمة التحرير والسلطة والحكومة والمشروع الوطني، إذا انعقد المؤتمر في مكانه وزمانه المحددين. حتى إن بعضهم تحدث بتشف، وفي مقدمتهم المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، عن حرب وشيكة بين الورثة على اقتسام التركة، التي ستؤول في نهاية الأمر إلى الإدارة العسكرية للاحتلال.
وما إن بدأت الاستعدادات التنظيمية والإدارية واللوجستية، قبل عدة أشهر، حتى اشتدت الرهانات، إلى ربع الساعة الأخير، على أن هناك قوة مانعة عربية، لا وجود لها، ستحول دون انعقاد هذا المؤتمر إلا بتحقيق بعض الشروط المسبقة، في مقدمتها ترتيب مسألة خلافة رئيس "فتح" والمنظمة والسلطة، وإلا فإن انهياراً سيملأ دويه الأسماع العربية والدولية. وهو ما انطلى على عقول كثير من المشفقين على الحالة الفلسطينية المثقلة أساساً بمصاعب تفيض عن الحاجة.
أدت التعليقات المطولة عن الخلافات الفتحاوية، والمبالغات الشديدة حول عمق الانقسامات الداخلية، إلى رفع وتيرة حالة الترقب لدى سائر المهتمين بالشأن الفلسطيني في العواصم العربية، ولدى منابر الإعلام على اختلاف توقعاتها. وبدت المخاطر المحدقة بالوضع داخل الأراضي المحتلة، جراء ضخ النبوءات المتطيرة حول تداعيات الانفجار المحتمل، تفعل فعلها في النفوس الملتاعة والصدور الآثمة. الأمر الذي أسهم في زيادة الاهتمام بمؤتمر بدا تأسيسياً في المسيرة الفلسطينية.
غير أن الاهتمامات التي سبقت موعد انعقاد هذا المؤتمر، بدت متواضعة، قياساً بالاهتمام الذي تجلى عليه المشهد يوم افتتاح المؤتمر السابع في الموعد المضروب سلفاً، سواء لجهة حضور المندوبين الآتين من مختلف المناطق والأقاليم والساحات، أو لجهة كثافة عدد الضيوف الفلسطينيين والعرب، إلى جانب 60 وفداً أجنبياً قادمين من 28 دولة، ناهيك عن المشاركة الرمزية اللافتة من جانب حركة "حماس"، التي لم تمنع سفر ممثلي "فتح" هذه المرة، ولم تسمح في الوقت ذاته بانعقاد اجتماعات في غزة، تشوّش على المؤتمر في رام الله.
وإذا كان من غير المنطقي التحدث عن نتائج مؤتمر قبل انتهاء أعماله المتواصلة، فإنه يجوز الحديث عن الأجواء اللافتة التي انعقد فيه مؤتمر وازن ومتوازن، ضم نحو 1400 عضو، وسط اهتمام وزخم دوليين فاقا كل التوقعات، وتغطيات إعلامية لم يحظ بمثلها حدث فلسطيني سابق على مدى عدة سنوات. الأمر الذي يمكن معه القول إن مؤتمر "فتح" قد أعاد الاعتبار للشأن الفلسطيني المهمل، وأثلج الصدور ورد الروح للممسكين على الجمر، ووضع تطورات القضية الكبرى في مكانها الطبيعي في مقدمات الأخبار.
عن الغد الاردنية