تكلمنا في مقالة سبقت عن الحقل الثقافي، ولكن بشكل عام، ونستكمل، اليوم، ما قيل بقدر أكبر من التخصيص. فالحقل الثقافي لا يمكن فصله عن الدولة/الأمة (nation/state)، ولا يمكن التعرّف عليه وتعريفه دون اجتماع شروط السلطة المركزية، والإقليم، والسوق. وهكذا يمكننا الكلام عن الحقل الثقافي المصري، أو الأميركي، أو الهندي..الخ. ولعل في شرط كهذا ما يضفي على كل كلام محتمل عن الحقل الثقافي الفلسطيني خصوصية فريدة، فهو لا يتجلى، ولا يتموضع، في إطار دولة/أمة، ويفتقر إلى اجتماع شروط السلطة المركزية، والإقليم، والسوق، في دولة واحدة، مُوحِدة، ومُوحَّدة.
لذا، تتعدد، في الواقع، حقول الثقافة الفلسطينية بحكم تعددية السلطات، والأقاليم، والأسواق، فنصف الشعب الفلسطيني تقريباً، كما تشير إحصاءات حديثة، أي قرابة ستة ملايين من البشر، يعيش في فلسطين الانتدابية، ونصفه الثاني يعيش في بلدان عربية مجاورة، وبقية بلدان العالم. (سنعالج حقول النصف الثاني الثقافية في مقاربة لاحقة).
شهدت فلسطين الانتدابية، على مدار قرن كامل، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى يوم الناس هذا، سلسلة زلازل ديموغرافية، وجغرافية، واقتصادية، وسياسية، غير مسبوقة في تاريخ العالم، فتقطّعت أوصالها، وتبدّلت ملامحها، وحقولها السياسية والثقافية والاقتصادية، والدينية، في تحوّلات وجودية من عيار ثقيل لم تتوقف حتى الآن، ولن تتوقف في وقت قريب.
وإذا كان في الإمكان الكلام عن حقل ثقافي واحد ومُوّحد، قبل العام 1948، فإن السمة الرئيسة لكل ما نجم عن تقطيع أوصال فلسطين الانتدابية، بعد ذلك العام، هي تعددية الحقول الثقافية، وتشظيها، وعدم ثباتها، وانفصالها عن بعضها البعض.
ففي الفترة ما بين 1948ـ1967 ظهرت إلى الوجود ثلاثة حقول ثقافية مختلفة، خضعت لثلاث سلطات مركزية مختلفة: مصرية وأردنية وإسرائيلية. بكل ما في أمر كهذا من اختلاف في مناهج التعليم، الاستثمار في الشأن الثقافي، وقوانين الطباعة والنشر، وتبلور سوق ثقافية، ونخب محلية.
وللمرة الأولى، بعد انقطاع دام قرابة عقدين، نشأ بعد الاحتلال الإسرائيلي حقل ثقافي فلسطيني واحد، في فلسطين الانتدابية، يضم الكتل الديموغرافية الكبرى في غزة والضفة الغربية والجليل، تحت سلطة مركزية إسرائيلية، وقد عاش لمدة 37 عاماً.
فبعد إنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى قبل هذا التاريخ بسنوات قليلة، فصل الإسرائيليون كتلة الجليل الديموغرافية عن شقيقتيها في غزة والضفة، وفيهما نشأ حقل ثقافي جديد تحت سلطة مركزية، لا تتمتع بالسيادة الكاملة على الأرض، ولكن يمكنها سن القوانين، والاستثمار في الحقل الثقافي، وحتى التأثير على القيم. وقد عاش هذا الحقل في ظل سلطة مركزية واحدة حتى العام 2007، عندما استولت "حماس" على قطاع غزة، لتصبح سلطة مركزية هناك، وتسعى للهيمنة على الحقل الثقافي هناك.
لذا، يمكن الكلام عن حقلين ثقافيين في فلسطين الانتدابية في الوقت الحاضر، في الجليل، وفي مناطق السلطة الفلسطينية، ولكن استيلاء "حماس" على قطاع غزة يبرر الكلام عن وجود ثلاث سلطات مركزية، وثلاثة حقول ثقافية.
وإذا كان ثمة من خلاصة عامة، في هذا الشأن، فتتجلى في حقيقة التحوّلات والتقلبات المتلاحقة التي لحقت بالحقل الثقافي الفلسطيني، في فلسطين الانتدابية، على مدار سبعة عقود من الزمن، ففتته، وقسّمته، وأعادت تقسيمه، وشكّلته، وأعادت تشكيله. وبهذا المعنى حرمته من الاستمرارية، والتراكم، وإنشاء التقاليد، وحولته إلى رهينة في قبضة جغرافيا لا تكف عن الحراك، وحدود تتسع أو تضيق كل بضعة عقود من الزمن.
يمكن لمَنْ شاء الكلام عن "الثقافة" الفلسطينية، ودورها في بقاء الشعب، بلورة هويته الوطنية، ولكن هذا كلام عام، فوزارات الثقافة والإعلام في مصر وسورية والعراق، والنخب العربية العلمانية، الثقافية والسياسية، اليسارية منها والقومية، في الربع الثالث من القرن الماضي، كانت أحد الروافع الرئيسة، بالمعنى الثقافي والسياسي، في حرب البقاء، وبلورة الهوية الوطنية. بمعنى أن العامل الذاتي لم يكن، بالضرورة، الوحيد، وأحياناً الحاسم، على مدار سبعة عقود مضت من الزمن.
هذه، على أي حال، جملة اعتراضية، فكل ما ينبغي أن يُقال، الآن، يتمثل التدليل على وجود أكثر من حقل ثقافي في فلسطين الانتدابية، في صورتها الحالية، وأن تعددية الحقول الثقافية لا ينبغي أن تُرى بالأبيض والأسود، فهي مصدر نعمة ونقمة في آن.
نعمة؛ لأن خضوع الحقل الثقافي في ظل الدولة/الأمة لسلطة مركزية، ونظام تعليمي مُوحّد، واستثمارات وقوانين وسوق واحدة، يعرضه لخطر الاحتكار، أو على الأقل لضغوط دائمة من جانب الأنظمة القائمة في بلدان غير ديمقراطية، وبهذا المعنى كان في تعددية الحقول الثقافية الفلسطينية، في ظل سلطات مركزية مختلفة، ما أضفى عليها قدراً من الغنى والحيوية، وما مكّنها من إنشاء حقل افتراضي (virtual cultural field) مُوحَّد ومُوحِّد في ظل سلطة مركزية (وافتراضية، أيضاً) لمنظمة التحرير الفلسطينية، حتى أواخر الثمانينيات، مثلاً.
ونقمة؛ لأن تعددية الحقول، والتحوّلات المتلاحقة، تحول دون تحقيق التراكم، والاستثمار بعيد المدى، والتأثير على الذائقة العامة، والقيم السائدة، في إقليمها، ويظل نشاط العاملين فيها محصوراً في غيتوهات ضيّقة، مختلفة الهموم، والأسواق، والمصالح، والقيم، والنفوذ العام، وموزّعة على مناطق جغرافية تفتقر إلى التواصل الدائم.
ولعل أسوأ ما في تعددية الحقول أن اختلاف همومها، وأسواقها، يرفع من شأن العموميات، والكلام الفارغ، في معرض التدليل على الوحدة، والثقافة الواحدة، وتجاهل خصوصيات ثقافية وسوسيولوجية، وسياسية، نشأت وتراكمت، على مدار سبعة عقود من الزمن، على بنية المجتمعات الفلسطينية وثقافاتها. ولنا عودة.
ملاحظات عن مسألة الحرب البرية
24 أكتوبر 2023