على هامش مطالبة الرئيس محمود عباس في كلمته من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 22 سبتمبر (أيلول) الماضي الحكومة البريطانية بالاعتذار عن «وعد بلفور»، مع مصادفة مئوية هذا الوعد (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917) ورد الفعل البريطاني على هذه المطالبة التي عززها بتصريح لوزير خارجيته تحدث فيه عن خطوات دبلوماسية وشعبية بطبيعة الحال، وبما ينطبق عليه لجهة الصدى البريطاني للمطالبة، القول الشائع «أُذن من طين وأُذن من عجين».. على هذا الهامش حقق الرئيس الفلسطيني إنجازًا لافتًا تمثَّل بإنجاح المؤتمر السابع ﻟ«حركة فتح».
مشاركة رئيس المكتب السياسي ﻟ«حركة حماس» في جلسة افتتاح المؤتمر وإلقاء كلمة له تلاها أحد نواب من الحركة جاءوا معه إلى «رام الله» وتضمنت جاهزية الحركة لكل مقتضيات الشراكة مع «فتح» ومع كل الفصائل والقوى الوطنية، عوَّضت الرئيس عباس غياب بعض المناصرين لكبير المنتفضين عليه محمد دحلان، وخففت كثيرًا من حالات عتب واحتقانات وحتى عبارات ذات طابع إدانة نشأت نتيجة مشاركة الرئيس عباس يوم الجمعة 9 سبتمبر 2016 في تشييع جنازة بيريس، وهي كانت مسألة لياقة في نظره كون الدعوة إلى المشاركة جاءته من عائلة بيريس ولم تأته من حكومة نتنياهو على نحو سائر الدعوات التي وجَّهتْها الحكومة إلى عدد من رؤساء الدول.
بعد التجديد الذي هو لمصلحة التماسك الفلسطيني وسط استحقاقات عربية ودولية، سيكون الرئيس محمود عباس الذي جاب دولاً غربية وشرقية، عدا حراكه الدؤوب بين السعودية ومصر والأردن، أمام شهور من السعي لتحقيق تقدم ملموس في أمور سبق أن تعهد بإنجازها. وهو بالسعي من أجل ذلك يتحرك من موقع قوي بعدما كسب انعقاد المؤتمر الذي كانت لاحت في الأفق احتمالات صعوبة انعقاده.
أبرز هذه الأمور تنشيط مطالبة بريطانيا بالاعتذار عن خطيئة «وعد بلفور» وتبهيت كلام نتنياهو لمناسبة الذكرى المئوية للوعد المشؤوم «إن السلام مع الفلسطينيين لم يعد شرطًا للسلام مع العرب، بل صار السلام مع العرب سبيلاً للسلام مع الفلسطينيين..». ومثل هذا الاعتذار يمكن بالكثير من المتابعة وتعميق العلاقة مع أطياف فاعلة في المجتمع المدني البريطاني انتزاعه وعلى نحو ما حدث في لجنة التراث العالمي التابعة ﻟ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم» (يونيسكو) يوم الأربعاء 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 في باريس، حيث تبنت اللجنة في دورة استثنائية رقم 40 قرارًا جديدًا يرفض إطلاق اسم «الهيكل» على حائط «البراق».
وهذا الحنين المستجد من جانب حركة «حماس» على نحو ما جاء في كلمة خالد مشعل، نحو الشراكة مع «فتح» وسائر الفصائل يشكِّل بندًا أساسيا فيما هو الأصعب أمام الرئيس عباس، ونعني بذلك ترجمة ما قاله رئيس الدبلوماسية الفلسطينية وزير الخارجية رياض المالكي من أن عام 2017 الذي بدأ العد العكسي لإطلالة فجر يومه الأول «سيكون عام بداية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي»، هذا إذا كُتب للمبادرة الفرنسية الصمود والتفعيل وقبل انصراف الرئيس فرنسوا هولاند بعدما أعلن ثاني أيام انعقاد «مؤتمر فتح» أنه لن يرشح نفسه لولاية ثانية ليحل محله فرنسوا آخر (فيون)، الذي بدأ يشق طريقه كمرشح اليمين لرئاسة فرنسا مبارزًا مرشح اليسار أو مرشحة الطبعة الفرنسية من الظاهرة الترامبية مارين لوبان. وبصرف النظر عمَن يكون الفائز فإن مصلحة فرنسا هي أن تكون صاحبة دور في منطقة الشرق الأوسط. وليس أفضل من المبادرة لممارسة هذا الدور، خصوصًا أن طبيعة العلاقة ذات الطابع الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية وفرنسا هولاند تشجع على ذلك، كون المبادرة العربية للسلام سعودية المنشأ وارتبطت بالملك عبد الله بن عبد العزيز، ونكاد نفترض أن منبع مبادرة فرنسا هولاند هي تلك المبادرة. وأما مسألة اعتذار بريطانيا عن «وعد بلفور»، فهذا لم يصدر لاستحالة الاعتذار في العهود الماضية، لكن بريطانيا المنصرفة عن أوروبيتها والمشغولة البال بانفصالات متدرجة قد تحدث وبحيث لا تعود عظمى، من مصلحتها تصحيح حالات ظالمة كثيرة ارتبطت بتاريخها من بينها هذا الوعد المشؤوم الذي ارتبط بملك (جورج الخامس) ووزير خارجية (جيمي آرثر بلفور) باتا في ذمة الله، كما أنه ليس قرارًا أو نصًا دستوريًا لكي لا يجوز المس به، وإنما هو مجرد وعد أو «كلمة شرف» على نحو التعبير المألوف بالعربية. وهنا يحضرنا قول الملك عبد الله بن عبد العزيز (كان ما زال وليًا للعهد) لرئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر خلال زيارة قام بها إلى بريطانيا «إن وعد بلفور عار مشؤوم وصار لزامًا نقضه». ولم يؤخذ بالملاحظة التي كانت ضمنًا بمثابة طلب، وتَعاقَب أربعة رؤساء من الحزبين على الحكم في بريطانيا والحال على ما هي عليه، لعل رئيسة الحكومة الحالية تريزا ماي تكون أفضل تجاوبًا من ثاتشر والأربعة الذين تعاقبوا بعدها (جون ميجور. طوني بلير. غوردون براون. ديفيد كاميرون)، وتكون مئوية الوعد نهاية ترضي شعب فلسطين وترفع من شأن بريطانيا إليزابيث الثانية وتضع نهاية للتوحش الإسرائيلي وادعاءات نتنياهو. ومثل هذه الخطوة المأمولة تلتقي مع ما لاحظْنا الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة جيمي كارتر يحاول تبييض صفحة انتزاع مصر السادات من الإجماع العربي بالنسبة إلى الصراع مع إسرائيل وتأدية دور العراب لمعاهدة السلام المصري - الإسرائيلي المعروفة ﺑ«معاهدة كامب ديفيد»، وذلك من خلال مقالة مفاجئة بعنوان «يجب على أميركا الاعتراف بفلسطين» نشرتها له صحيفة «نيويورك تايمز» كما نشرتها أيضا «الشرق الأوسط» تزامنًا مع تسعينيته (مواليد 1 أكتوبر 1924) غير البعيدة عن مئوية «وعد بلفور»، ومع اقتراب انصراف رئيس راوغ على مدى ولايتيْن، من معالم سنواتهما شراهة الاستيطان الليكودي المنتهز ظروف الاحتراب العربي والخراب السوري بالذات، في موضوع الدولتيْن وبداية عهد جديد نخشى ومعنا الشعب الفلسطيني بفتحاوييه المعتزين بمؤتمرهم السابع وحمساوييه الأقل خشونة ثورية من ذي قبل، ورئيسه وقد تجاوز الثمانين حولاً بسنة فلا يسأم ويواصل بعد نجاته من كمائن أخفق الناصبون في إصابة مكانته بسوء، مجددًا وبمفردات الواثق بنفسه أنه «لا دولة فلسطينية من دون غزة»، وهو قول أوجب الشوق الحمساوي إلى التلاقي مع «الإخوة الأعداء» الذين سبق أن أقسموا أمام الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمة الله عليه، أنهم سيكونون متفاهمين متضامنين وكالبنيان المرصوص يشد بعضهم إزر البعض. ثم سرعان ما محا الليل كلام النهار.
يطول الكلام في الأجواء الطيبة التي سادت المؤتمر السابع ﻟ«حركة فتح» الذي كان في جانب من ملامحه مؤتمر جميع الفلسطينيين. وبعدما أمكن تجاوز الصعب العباسي فإن الأصعب هو الآتي.
عسى ولعل يكون عام 2017 عام تحقيق ما سبق أن كرره رمز القضية الفلسطينية أبو عمار من أن الدولة على مرمى حجر.
عن الشرق الاوسط