من الصعب التنبؤ بشكل وماهية وطبيعة الحركة التي من المتوقع أن يشكلها الجيل الجديد، كما يصعب تحديد موعد ولادتها؛ إلا أنه بالإمكان رسم معالم عامة لشكل هذا المولود المرتقب، وتحليل الظروف والمعطيات التي يمكن أن تؤدي إلى ولادته.
وحتى الجيل الجديد نفسه، ليس لديه تصور معين أو رؤية واضحة عن بنية وطبيعة ومهام الحركة الوطنية التي يقوم بتشكيلها، حيث ما زال الكثير من القضايا والأمور المهمة موضع تساؤل واستفسار، والمشكلة أن لا أحد يجيب عنها.
ومع كل مظاهر عزوف الشباب عن العمل السياسي، ورغم أن أكثريتهم عبروا عن عدم تأييدهم للقيادة الحالية، أو على الأقل تحفظهم على مواقفها وخطابها، إلا أن أي مراقب سيلحظ مشاركة نشطة وفعالة للشباب في الفعاليات الشعبية والوطنية، سواء في المسيرات أو في الاعتصامات، أو في المهرجانات الخطابية التي تُقام في مناسبات معينة، وكذلك مشاركة واضحة في موسم الانتخابات الطلابية (وهي انتخابات فصائلية)، ما يعني أن المواقف ما زالت متباينة، ومن غير الممكن الحسم بجمل قاطعة وأحكام نهائية بأن جيل الشباب مع التوجه الفلاني، أو ضد التوجه العلاني.
ربما نكون على مشارف ميلاد حركة وطنية جديدة، ولكن ربما أن شروط ميلادها لم تكتمل بعد، وبحاجة لبعض الإنضاج، لأن التسرع في استقدام هذه الحركة قبل أوانها ربما يفضي إلى نتائج عكسية، خاصة في هذه المرحلة التي تسود فيها الفوضى التاريخية في الإقليم العربي بشكل عام، كما أن الجيل الشاب قد لا يحمل بالضرورة المعاني والقيم الإيجابية الثورية، لاسيما وأنه خضع لتأثيرات سلبية تركت بعض الأثر على قطاعات معينة من الشباب.
وحول احتمالية أن يكون شكل ومضمون الحركة الوطنية الجديدة ذا صبغة إسلامية أو أصولية، يمكن القول إن معظم الظروف والمعطيات التي أدت لنشوء تيارات الإسلام السياسي وتقويتها بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي قد تغيرت، ونشأت محلها معطيات جديدة ومختلفة، وبالتالي ليس من المتوقع أن يتسم حراك جيل الشباب الصاعد بالطابع الديني أو الأصولي.
اليوم، ومنذ بزوغ الربيع العربي لاحظنا أن الفئات الشعبية المهمشة والمسحوقة قد فجرت الثورات الجماهيرية بمعزل عن تأثير القوى السياسية بما فيها الإسلامية، ولم تكن بحاجة للأيديولوجية الدينية خاصة في المراحل الأولى من ثوراتها.
لعل ممارسات الجماعات الإسلامية المتشددة، وخاصة داعش، قد أعطت صورة مشوهة للإسلام، ما جعل من الجيل الجديد يتنبه لطبيعة الإسلام السياسي، ومن جانب آخر متصل، فإن الأنموذج البائس في الحكم الذي قدمته حماس في غزة، والذي قاد القطاع لحالة غير مسبوقة من التراجع على كافة المستويات، سيجعل الشباب من الجيل الجديد ينظر بعين مختلفة لشعارات الإسلام السياسي التي كانت تجذب الأجيال السابقة، وبالتالي لم تعد هذه التنظيمات تشكل أنموذجا مغريا محببا للشباب، باستثناء فئات محددة تمثل نسبة مئوية ضئيلة جدا، وهي فئة الشباب الذين بطبيعتهم تستهويهم مشاهد العنف والدم وتجذبهم الأفكار المتطرفة، وخلاف ذلك سيظل الجيل الجديد ينظر للإسلام كدين سماوي متسامح، تربطه به علاقة روحية فردانية.
وفي جميع الحالات، من شبه المؤكد أن الدين والثقافة الدينية سيظلان حاضرين في الحياة السياسية العامة، وفي المشهد الثقافي العام، وليس شرطا أن يكون بشكل الإسلام السياسي الذي عرفناه.
من خلال مقابلات شخصية وجماعية لعينات عشوائية من الشباب، كانت إجابات الأغلبية الساحقة ممن تمت مقابلتهم أنهم لا يعرّفون أنفسهم كأناس متدينين، وبعضهم أجاب بأن علاقته بالدين علاقة روحية شخصية، كما أجاب عدد منهم بأنهم مؤمنون، ولكنهم غير ملتزمين بالعبادات، مع عدد قليل منهم أبدوا إعجابا وتأييداً لحركات الإسلام السياسي (بما فيها حماس)، وإذا كان جميع من تمت مقابلتهم قد أبدوا احتراما واضحا للدين، إلا أن أياً منهم وافق على وسم نفسه بالمتدين المتشدد، بمن فيهم أنصار حماس.
ومن غير المرجح أن يكون شكل ومضمون الحركة الوطنية الجديدة يسارياً، نظراً لضعف الحركات اليسارية الحالية، وضعف تأثير اليسار على المستوى المحلي والعالمي، هذا الضعف الذي توضح وتفاقم بدءاً من بداية التسعينيات، التي شهدت انهيار المنظومة الاشتراكية.
لكن المهم بالنسبة للشباب هو قيم الحرية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، وهي قيم يتبناها اليسار بشكل عام.
الأمر نفسه ينطبق على السمة القومية، التي خبت أيضا لأسباب عديدة، ولم يعد الخيار القومي الوحدوي طرحا عمليا في ذهن الكثيرين.
على الأغلب، سيكون المولود القادم حركة وطنية فلسطينية، فيها سمات وملامح من اليسارية والليبرالية والإسلامية، إلى حد ما، وستكون خليطا متجانسا تعدديا، تتضمن كل مكونات الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، وأطيافه السياسية، لكنها ستكون ديمقراطية بحيث تسمح لهذا الخليط أن يتعايش معا، بسلام.
ونظراً لخصوصية الحالة الفلسطينية، وبسبب وجود الاحتلال؛ فإن أية حركة وطنية فلسطينية لا بد أن يكون جوهر برنامجها مقاوما، وقد عبر البعض عن تأييده للمقاومة الشعبية، وآخرون عن تأييدهم للعمليات الاستشهادية، فيما رفض بعضهم العنف، لأن معيار الالتفاف الشعبي حولها سيكون مقدار مقاومتها للاحتلال، وإلى جانب الطبيعة الثورية لهذه الحركة، ستتسم بطابع الحداثة والتجدد والديناميكية، سواء في خطابها السياسي، أو في نهجها وأساليبها وآليات عملها، لأنها ما لم تكن كذلك، لن ترى النور، وربما هذا سبب تأخر ولادتها إلى الآن، أي بسبب عدم اكتمال ونضوج هذه الاشتراطات.
هذه السمات في جوهرها تشبه إلى حد كبير روح ومضمون حركة فتح كما جاءت في مراحلها الأولى، ولو حافظت فتح على هذه الروحية، ولو أنها كانت تجدد في قيادتها وأطرها التنظيمية وهياكلها وبرامجها وخطها السياسي بشكل مستمر، لما كان هناك أي داعٍ للحديث عن حركة وطنية جديدة.
وبالإضافة لما سبق، ستكون المبادرات الذاتية، والإبداع الشخصي، والخيارات الفردية التي تمليها الضمائر ونزعات التجريب والميول الخاصة، وحتى الفوضى بأشكالها ستكون قسمات واضحة في بنية وشكل هذا الحراك الجديد.
على مستوى الإنتاج الثقافي والفني والأدبي قد نشهد أشكالاً وأعمالاً جديدة تتسم بروح التمرد والخروج عن المألوف، والنزعات الفردية، والتحرر من التابوهات، وستكون البنية الثقافية مشدودة للمستقبل أكثر، ومتحررة من إرث الماضي أكثر.
هذه القراءة، جزء من كتاب "الشباب الفلسطيني، المصير الوطني ومتطلبات التغيير"، الذي صدر مؤخرا عن مركز الأرض للأبحاث والسياسات، تحرير د. جميل هلال.