غزة وتحديات الحكم !

d986d8a7d8acd98a-d8b4d8b1d8a7d8a8
حجم الخط

أستاذ علوم سياسية/ غزة

الحكم ليس منحة أو هبة أو تفويض إلهي ، وليس مجرد تفويض شعبي لمن يحكم. وليس غاية في حد ذاته. بل هو أبعد وأعمق من مفاهيم النفوذ والقوة والتسلط، على القدرة على التكيف مع محددات الحكم الداخلية والخارجية ، وقدرة على مواجهة التحديات التي يفرضها الحكم، وفي النهاية هو مساءلة ومسؤولية ، حتى في النظم الإستبدادية والسلطوية ببعدها الديني والمدني يبقى الحكم قدرة على التكيف والاستجابة لمطالب الناس المتزايدة ، والتي تفوق في الكثير من الأحيان قدرة الحاكمين.

ونموذج غزة في الحكم قد يفوق كل أشكال الحكم المتعارف عليها، فمن يريد أن يحكم غزة عليه أن يحدد أولوياته وأهدافه ، وآلياته، والإمكانات التي تحكم حدود الحكم. وقد يشكل نموذج غزة للحكم أغرب نماذج الحكم المتعارف عليها ، لسبب بسيط وهي خصوصية وإستثنائية حالة غزة.

ولقد برزت مشاكل الحكم مع استفراد حركة حماس بحكم غزة واقعيا. وهنا كان التمييز ضروريا بين خيارات الحركة الخاصة بها، وبين خيارات غزة ، وثالثا بين الخيارات الفلسطينية الكلية على اعتبار ان غزة جزء لا يتجزأ ولو في المرحلة الآنية عن الكل الفلسطيني .

ويبدو أن هذا لم يحدث، فوظفت خيارات غزة لصالح خيارات الحركة وهو ما أحدث حالة غير مسبوقة من الحكم، ومن التحديات الداخلية والخارجية. والتمييز الثاني المطلوب في هذا النموذج تحديد محددات الحكم للحركة ومحددات الحكم على مستوى القطاع. والسؤال هنا: هل الغاية من الحكم هي تقوية خيار "حماس" كحركة ذات مرجعية أخوانية ، وبالتالي الهدف هنا ان تكون غزة كينونة قوية للحركة على اعتبار أن حركة حماس هي الفرع الأقوى عسكريا ، والأكثر تنظيما بالنسبة لحركة الأخوان؟ ناهيك عن تلاصق غزة مع مصر وإسرائيل والسلطة وهو ما يعطيها أهمية ووزنا أكبر من هذا المنظور، ولذلك يصبح الهدف هو الحفاظ على هذه الكينونة ، وعليه يعتبر خيار الحرب منافيا ومناقضا لهذا الهدف الأساس، ويصبح الهدف من الحرب فقط خلق واقع سياسي جديد يضمن تحقيق الهدف الأول.

ولذلك ذهبنا لثلاث حروب حتى اللحظة فشلت في تحقيق أهدافها السياسية مما قد يفسح المجال أمام حرب رابعة قد يترتب عليها واقع سياسي جديد.إلا ان حركة حماس وبعد ما يقارب العشر سنوات من حكمها الواقعي لغزة بدأت تدرك حجم التحديات والمشاكل التي تواجه الحكم في غزة ، فمن ناحية لا تستطيع الحركة بكل إمكاناتها ان تعلن غزة حكما إسلاميا مستقلا فهذا يحتاج إلى اعترافات خارجية وخصوصا من العمق الجغرافي مصر وإسرائيل، ولذلك فان خيار الإنفصال الرسمي مستبعد في هذه المرحلة .

حماس بعد هذه السنوات بدأت تدرك طغيان محددات الحكم التي تفرضها غزة ، وكيف ان هذه المحددات تفرض ذاتها على محددات الحكم من قبل الحركة ، وهو ما يتطلب تكيفا سياسيا مع هذه المحددات ، وهو ما نلاحظ بعض إرهاصاته كالتوجه نحو مصر، والاستمرار في خيار الحوار وصولًا للمصالحة التي من خلالها يمكن أن تحل الكثير من تحديات الحكم في غزة.

إذن إشكالية الحكم في غزة هي ما مدى التوافق بين محددات الحكم لحركة حماس وخياراتها، ومحددات الحكم وخيارات غزة التي تشكل الإطار البشرى والجغرافي والأمني والاقتصادي للحكم. وهنا أهمية الإشارة إلى محددات الحكم على مستوى غزة: أولها المحددات الجغرافية ، فغزة محكومة بمساحتها الجغرافية التي لا تزيد عن 340 كيلو مترا مربعا، وتتسم بغياب العمق الجغرافي ، فهي أرض منبسطة ، ومنخفضة وتفقد العمق الإستراتيجي ، فعمقها لا يزيد عن 10 كيلو مترات ، وهذه المساحة المخنوقة يحكمها البحر من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى ، ومنفذها البري الوحيد مصر، وصغر المساحة ينعكس على قلة الموارد الطبيعية ،وعلى مصادر المياه والطاقة. وعلى فقدانها الميزة العسكرية ،ففي كل الأحوال غزة لا تصلح ان تتحول إلى ثكنة عسكرية ، ولا تصلح أن تنطلق منها خيارات الحرب، هذه الحتمية الجغرافية تفرض عدم فعالية الحرب والمقاومة العسكرية كخيار لتحقيق أهداف الحكم على مستوى غزة وحتى على مستوى الحركة.

والمحدد الثاني المحدد البشرى ،فعدد سكان غزة تجاوز المليونين، لتعتبر من أكتف المناطق السكانية في العالم. وهذا العدد يفرض تحديات كثيرة على الحكم وإشكالية المتمثلة في منحنى التوقعات والمطالب وسلم التوقعات الذي يرتفع بمتوالية مضاعفة تفوق قدرة أي حكم كحركة حماس، وما بالنا وغزة تحت الإحتلال والحصار، وهو ما من شأنه حدوث فجوة الحكم التي تقود في النهاية للتفجر الإجتماعي. ، وأبرز أسبابه مشكلة الفقر والبطالة التي تجاوزت الأربعين في المائة ، وانسداد أفق ومجالات العمل، وهذا يترتب عليه تحديات اجتماعية تفوق القدرة على الحكم أبرزها تنامي الأفكار والحركات المتشددة التي تجذب الطبقة الفقيرة ، وتنامي المشاكل الاجتماعية من عنف وقتل وسرقة ، وكلها تعني هشاشة البناء الاجتماعي الذي هو أساس الحكم الناجح والرشيد، وهذه التحديات قد تؤدى لسياسات معاكسة بالتركيز على البعد الأمنى والعسكري الذي قد يحتاج لإمكانات مالية كثيرة ، ويخلق فجوة حكم بين من يحكم في بعد القدرة والتكيف والاستجابة وبقية السكان في بعد المطالب المتنامية. والمحدد السياسي والأمني الذي يفرض نفسه وما له صلة بكل من مصر وإسرائيل، وهنا يواجه الحكم ثلاثية الأمن والقدرة على التوفيق بينها وبين ما يفرضه امن غزة ، ورؤية حماس لأمنها. هذه بعض من التحديات والمحددات التي قد تضع الحكم بين خياري الحرب، وخيار الانفجار الداخلي ، وكلا الخيارين يبعدان الحكم عن هدفه الأساس وميله للبعد الأمني القمعي ، وفرض مزيد من الرسوم التي تشكل المصدر الرئيس للمال ، وفي الوقت ذاته تسرع من درجة الغليان والانفجار الاجتماعي .

وهذا يتطلب مراجعة لكل هذه الخيارات، وتفهم المحددات القدرية التي تفرضها غزة على من يحكم, تحديات لا يمكن تجاهلها والقفز عليها، والمطلوب رؤية تنموية مدنية للحكم في غزة وليس رؤية عسكرية .فالحكم في النهاية يبقى ذا عمق مدني أكثر منه أمني او عسكري.