مهرجان شاشات لسينما المرأة: ما هو الغد؟

مهرجان شاشات لسينما المرأة: ما هو الغد؟
حجم الخط

السينما الجيّدة تجعلنا بشراً أفضل، أو هي ربّما تجعلنا بشراً بطريقة أفضل. مهرجان شاشات لسينما المرأة في فلسطين بنسخته العاشرة يتساءل: ما هو الغد؟ من خلال أربعة أفلام تنتمي بالتأكيد إلى ذلك النوع من السينما. بدأت العروض في 12 تشرين الثاني / نوفمبر وهي مستمرة حتى 11 كانون الأول / ديسمبر. بعد كلٍّ من العروض الـ90 المخطط لها، تجري مناقشة الفيلم في سياقه، وتتوسع المناقشة للوصول إلى السؤال عن معنى الغد الفلسطيني كما يراه الحاضرون. نقدّم لكم هنا بعضاً من أجواء هذه المناقشات حيث الحديث عن معاني الهوية الفلسطينية وتشظّيها، وعن معنى الاستشهاد ومعنى أن يعيش مجتمعٌ كامل على حدود الموت طول الوقت، وعن أن تكون النساء قادرات على رصد هذه المعاني بكاميراتهن التي تصير أداة تغيير سياسية وحياتية للذين يشاهدونها.

 

فيلم"جرافيتي" لفداء نصر: قصّة موت فلسطيني معلن لرامي سلامة

 

يمكن تلخيص الانطباع العام الذي أثاره عرض فيلم "جرافيتي" لفداء نصر ضمن مهرجان "شاشات لسينما المرأة في فلسطين" (تحت عنوان: ماهو الغد؟) للطلبة في جامعة بيرزيت بفكرة انبثاق مفاهيم الموت والحياة والحب ومعانيها من السياق الذي

 

 

يتواجد به المجتمع والأفراد. فالموت الفلسطيني ليس كأي موت، ولا الحب الفلسطيني كأي حب، تماما كما أن الحياة الفلسطينية ليست كأي حياة في مكان آخر لا يوجد به احتلال. أجمع العديد من الحاضرين على أنّ هذه المفاهيم يجب أن تقارَب ضمن سياق حالة الفرادة الفلسطينية. إحدى الطالبات اعتبرت أنّ فيلمي "جرافيتي" و"صيف حار جدّاً" فتحا لنا نوافذ لأشياء لم نكن نراها من قبل، فهما أتاحا معرفة معنى الحرب والمشاعر الإنسانية البسيطة المرافقة لها. بإمكاننا ملاحظة أنّ الفيلمين يتيحان لنا رؤية الشهيد أو الشهيدة بشراً ذوي مشاعر وأحاسيس وجمال. ربما هذا يدفعنا للقول بأن ما حققه الفيلمان هو الإتيان بمشاعر ناس وأحلامهم وهمومهم وعرضها على الشاشة لناسٍ آخرين ليروا أنفسهم وحياتهم عبر شخوص الفيلمين، ويخيّل لي أن العرضين سيدفعان هؤلاء الطلبة إلى البحث عن القضايا اليومية البسيطة والالتفات لها في تفكيرهم وأبحاثهم ومداخلاتهم. قالت إحدى الطالبات إنّ المخرجة فداء نصر ختمت فيلمها بـ"فلسطين بحاجة إلنا احياء" ويبدو "بأن مهمتنا كوننا أحياء هو البحث عن معاني حياتنا".أعتقد أن ما دار من نقاشات حول الفيلمين حتى اللحظة، يؤكد بأن المخرجتين قامتا بتغيير وبتوسيع رؤية المشاهدين إلى حياتهم وسياقها الفلسطيني، سياق يضيء المعاني اليومية والبسيطة للناس مقابل الشعارات الوطنية الكبرى التي أصبحت بلا مضمون حقيقي.

 

في البحث عن هذه المعاني خلال النقاشلم يجد الطلبة صعوبة بإيجاد تعابير يصفون بها الموت الفلسطيني. وتمحور حديث معظمهم حول كون الموت الفلسطيني مشهداً يومياً متكرراً، وحول كوننا جميعاً معرضين للموت إذ نعيش تحت الاحتلال الذي يقرر متى نعيش ومتى نموت وكيف نموت أيضا. قدرة الطلبة على الحديث بسهولة ويسر عن الموت الفلسطيني ليس شيئا غير عادي، ربّما لأننا كما قال أحد المشاركين في النقاش "ننتظر موتنا في هل بلد" وما ظهر في النقاش من خلال المداخلات من عدم قدرةٍ على إعطاء أي معنى للحياة بمعزلٍ عن الموت يشير إلى أنّ الموت الفلسطيني كما قالت إحدى الطالبات "ليس مادياً فقط"، فعيش حياة يلفها ويحيطها ويهددها الموت هو موت أيضا.

 

ضمن نفس الإطار انتقل الطلبة المشاركون في النقاش للتفكير والحديث عن معنى وأهداف الاستشهاد. انتقدت مجموعة من الطلبة فكرة عمليات الطعن، كما حدث مع الشهيد رائد والشهيدة دانية. البعض منهم وصفوها بالانتحار، وبأنه علينا أن نبحث عن أدوات أكثر فاعلية للمقاومة، لا أن نموت بهذه الطريقة على الحواجز والطرقات. مجموعة أخرى من المشاركين في النقاش رأت عكس ذلك، فعمليات الطعن برأيهم تحقق توازناً للرعب وهي أداة مقاومة ناجحة وتؤثر في الاحتلال. دار هذا الجدل ما بين الطلبة إلى حين قدمت طالبة فهما مغايرا لهدف ومعنى الاستشهاد، وقالت بما معناه إنّ الاستشهاد الفلسطيني هو الحياة الفلسطينية، وإنّ الشهادة ليست بوابة للموت بل بوابة للحياة، أي أنّ الهدف من الاستشهاد، وبعيدا عما يحمله من معانٍ دينية، هو مرتبط بالحياة أكثر من ارتباطه بفكرة الموت. بصيغة أخرى: إذا كانت معاني الحياة الفلسطينية مرتبطة بالموت، فإن الاستشهاد هو قتل الموت الفلسطيني.

 

رغم اختلاف آراء المشاركين حول عمليات الطعن والاستشهاد، إلا أنّهم أجمعوا على أنّ الخيارات التي يعشيها الفلسطيني هي خيارات محدودة والاستشهاد هو أحد هذه الخيارات المتاحة. ربما لم يكن هناك خيار لدانية ورائد سوى الاستشهاد، أي أنّ خيارتنا تُفرض علينا، تماما كما فرض خيار توثيق حياة وقصة الشهيدين على المخرجة فداء نصر. هذا أيضا كان محور نقاش الطلبة حول معنى الحب. للحب في فلسطين خيارات محدودة، سواء كانت مكانية أو زمانية. أحد الطلاب قال إن "ليس بمقدورنا أن نحب في بحرية في فلسطين". ربما هذا يتجلى في ما كتبته الكاتبة المجهولة على الحائط لرائد، فزمن الموت لم يعطها وقتاً كافياً لتعبّر له عن حبها.

 

اختلفت آراء الطلبة حول سؤال الغد. منهم من اعتبر أنّ التفكير في الغد غير ممكن. لا يمكن التخطيط للحياة في ظل الموت، وربما تكون مهمة الغد فقط هي أن نكون أحياء، أي أنّ مهمتنا الأولى في الحياة هي المحافظة على أرواحنا من الموت، أو أن نحافظ على أرواح الآخرين. إحدى الطالبات أشارت إلى أنّ الغد هو صورة شهيد أو صورة معتقل أو صورة جريح. مجموعة أخرى من الطلبة أجمعت على أنه لا يمكن العيش دون أمل، حتى لو كان هذا الأمل بعيد المنال، ففكرة الأمل ضرورية حتى نستطيع أن نكمل حياتنا. فيلم "جرافيتي" كما أشار أحد الطلاب هو بحد ذاته الآمل الذي دفع المخرجة للحديث عن الموت، فلولا الأمل والرغبة في حياة بدون موت لما قامت المخرجة بصنع هذا الفيلم، رغم أنّها نفسها معرضة للموت في أي لحظة، كما قالت في فيلمها.

 

 

غد الشباب الفلسطيني في المناطق المهمشة

 

أحمد حنيطي

 

 

 

أثار عرض ونقاش فيلم "صيف حار جدا" ضمن مهرجان "شاشات لسينما المرأة في فلسطين" (تحت عنوان: ما هو الغد؟) لطلبة إحدى مدارس منطقة الأغوار الفلسطينية، الكثير من القضايا المتعلقة بنظام التعليم الفلسطيني، وبواقع الشباب الفلسطيني وغدهم في المناطق المهمشة.

 

الفيلم من إخراج وسيناريو أريج أبو عيد، وإنتاج مؤسسة شاشات، وهو يحكي عن واقع ويوميات وأحلام المخرجة أثناء الحرب على غزة عام 2014. حضر الفيلم جميع طلبة الصفين العاشر والحادي عشر (43 بينهم 6 ذكور فقط)

 

طريقة تفاعل الطلبة أثارت عدداً من القضايا التي تتعلق بواقع الطفولة المتأخرة والشباب في فلسطين مما يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول واقع الهوية الوطنية الفلسطينية، والغد الذي ينتظر هؤلاء الشباب، ويسعون لتحقيقه. يمكن اختصار تلك القضايا في النقاط الأربع التالية:

 

1. الأغلبية الساحقة من الطلبة لم يتمكنوا من المشاركة في نقاش القضايا التي يطرحها الفيلم، وإبداء رأيهم في ماهية الحرب والتفاصيل اليومية خلالها، وقضية تجريد المواطنين من إنسانيتهم، وكيفية تجاوز أزمة الحرب، وكيف تفاعلت البطلة مع واقعها ومع غدها، وهل المرأة محرك للتغيير.. وذلك رغم المداخل والمفاتيح والإشارات العديدة التي يقدمها الفيلم حول تلك القضايا.

 

تعكس هذه التجربة الإشكالية الحقيقة في نظام التعليم الفلسطيني، حيث يمارس عملية تدمير لمهارات الطلبة، من خلال تركيزه على الحفظ والتذكر فقط ويُغَيِّب النقد والتحليل. وبالتالي تضع هذه الحالة أسئلة استفهام عديدة عن المقولات والشعارات الرنانة التي ترددها النخب السياسية والثقافية الفلسطينية، وهي أن الشباب الفلسطيني صانع ومحرك التغيير. والسؤال هنا، أي تغيير يمكن أن يحركه ويحدثه هؤلاء الشباب، وفي أي اتجاه وهم لم يحصلوا على أي تمارين تمكنهم من تنمية مهاراتهم في التحليل والتفكير التي تتطلبه عملية التغيير؟ فما يتم ممارسته تجاههم هو عملية تدجين.

 

جميع الطلبة لم يتمكّنوا من تعبئة استمارة التقييم التي تحاول الاستفسار حول رأيهم في الفيلم ونقاشه، أي أنّ نظام التعليم أفقدهم القدرة على التعبير عن أنفسهم.

 

2. الكثير من الطلبة سمعوا عن الحرب دون متابعتها، وقال بعضهم إنّهم كانوا يغيرون محطات التلفزيون مباشرة عندما كانت تتحدث عنها في غزة، وكأنها في كوكب آخر. وساهم في تعزيز هذه اللامبالاة الخطاب الفلسطيني الرسمي وفي بعض الأحيان غير الرسمي. السؤال هنا: ما هي الهوية الوطنية التي أنتجتها السلطة الوطنية بشكل عام، ونظام التعليم الفلسطيني بشكل خاص عند هؤلاء الطلبة؟ إن اللامبالاة تجاه القضايا الوطنية بين الشباب الفلسطيني في المناطق المهمشة يعكس حالة اغتراب عن الذات، أي تشوه في الهوية الذاتية، كما يعكس تمزقاً وتفسخاً مناطقياً تجاه الهوية الوطنية.

 

3. أظهر عرض الفيلم التناقض الذي يعيشه الفلسطينيون في الأغوار، وخاص أولئك الطلبة، ففي الوقت الذي يمارس فيه الكيان الصهيوني حربا شرسة على الفلسطينيين، يعمل أهالي هؤلاء الطلبة، والطلبة أنفسهم، في المستوطنات الإسرائيلية، وهذا يجعلهم يخلقون علاقات ودية مع المستوطنين الذين يسيطرون على أرضهم، وكذلك يشاركونهم في بعض الأحيان علاقات اجتماعية متنوعة، والكثير من الذين يعملون في المستوطنات يفضلون العمل فيها أكثر من العمل في المزارع والمنشئات الفلسطينية.

 

إن وجود ستة ذكور فقط في الصفين العاشر والحادي عشر، يدل بشكل مباشر على عملية تسرب ضخمة للذكور من المدارس للعمل في المستوطنات. ففي الوقت الذي تتحدث الكثير من الدراسات عن النخب المعولمة - تلك التي تعمل في المؤسسات الأهلية الفلسطينية وكذلك الحكومية - والمرتبطة بالمؤسسات الدولية وثقافتها، فإنه يمكننا القول بأن هناك فئة اجتماعية شعبية متأسرلة، معجبة كثيراً بالنموذج الإسرائيلي، ومرتبطة به حياتيا وكذلك نفسيا، وينعكس ذلك في ممارساتها وسلوكها ورؤيتها للحالة الفلسطينية، والغد الذي تتطلع إليه.

 

4. يعكس التفوق الكبير في عدد الإناث في الصفوف الدراسية في منطقة الأغوار أنّ توجه الإناث نحو التعليم إيجابي وأفضل بكثير من توجه الذكور. يعزى هذا التوجه الإيجابي بشكل رئيسي إلى رغبة الإناث في الهروب من واقع لا ترغبن بالعيش فيه، وتعتقد أولئك الفتيات أن التعليم هو الفرصة الوحيدة لتحقيق ذلك، وبشكل أساسي يوفر لهن إمكانية الحصول على وظيفة في قطاع الخدمات، وأيضا حصولهن على فرصة زواج أفضل. إن هذا الغد الذي تخطط له الكثير من الإناث في منطقة الأغوار، أي الهروب من الواقع دون العمل على تغييره، يصطدم في كثير من الأحيان باتساع حجم البطالة المتجذرة في المجتمع الفلسطيني، ولكن نظام التعليم الفلسطيني يجعل أولئك الفتيات تتماهين مع الواقع الذي يرفضنه، دون فرصة لعملية التغيير، وبالتالي يعاد إنتاج الواقع المرفوض ذاته. يمكن في هذا السياق مراقبة خطاب وسلوك الأشخاص الذين حصلوا على تعليم عالي وأولئك الذين لم يحصلوا على أي تعليم، وسنجد في كثير من الأحيان تجانساً وتماهياً بين الفئتين.

 

إن كل المعطيات السابقة، وغيرها من المؤشرات، تضع علامة استفهام كبيرة حول ماهية الغد الذي ينتظر الشباب الفلسطيني في منطقة الأغوار، وعلامة استفهام أكبر حول دور المؤسسات والنخب الثقافية الفلسطينية، التي يُصرف الكثير من الأموال على إنتاجها، وعن دورها تجاه الشباب الفلسطيني في المناطق المهمشة.