لقد كانت انتفاضة كاملة!
كان الفهد خارجاً بكامل سخونته، من الغابة البكْر، يحمل قلب الريح، كأنه عاهل العاصفة، كان ريّاناً، مُشْبَعاً بغضب الأشجار التي ماتت واقفة، ولم تركع! وكان صمته قِطَعاً من غضب الليل الذي كَنَس البساطير الثقيلة من ليل المدن والقرى، وجعل يقظة الخوف أبديةً في حدقات الخونة والجنود .
تلك كانت انتفاضة . أو سبعٌ روّضته البيوت، وأطلقته على الدخلاء ، وكانت فهداً بريّاً، له أناقة البرق وإغواء الغزال .
هي صوت الرأس وشعلة الجسد كلّه.
كانت زفّة واحدة أو جنازة واحدة، واختلاط الدمع بالحبق، وملوحة عرق الأعراف بعسل الفرس .
كانت صيحة إسرافيل الفلسطيني، الذي أيقظ الحجر والشجر والطير والينبوع، مثلما هي صحوة الجسد من خَدَر العملية الجراحية الفاشلة .
وكانت غيث كانون الواضح، وتردد الغيمة في عباءة العاصفة.
كانت البداهة والبديهة، وصنعة الثوب الكنعاني المطرّز .
كانت الدخول الحاسم إلى بهاء الموت برضى كامل، وما يشدّك إلى أن تغسل الأرض، كل الأرض بوريدك الكريم .
تلك تاج المليحات، وأم الحكايات، وقصّة الراوي الذي لن تنتهي لياليه . كما كانت مسرحية الكاتب المسلّح الناضج، الذي تقلّب على سفّود الجمر، وما فتئت تأكل كبده ليل نهار.
تلك لحم التفاحة الأحلى، وليلة الدخلة التي لن ننسى لذعة السوسن فيها، أو حُرقة عجين ورقة الليمون، وصخب أغنيات الأهل الفرحين، وهي زواج الوردة للمدى الدامي، في فضاء قاعة المدعوين والشهود .
تلك شهوة الزيت، وانفعال الشفتين، ورضى الزوجات عن الغياب المليء بالدوالي والرسوخ. وهي البهجة بالموت العالي، والفجيعة باللوعة المجانيّة .. أحياناً .
وتلك مقابسات ليالي القبر التي أشرقت بالجنين الرسولي، وهي نهضةُ الفتى لتكتمل دروسه، وتصحو مداركه .
* * *
والآن ؛ يغيب الآن الموسم كله، بإرهاصاته، وحلقاته وأسواقه وتجمعاته! وتحضر هندسة الحرب، لتبعدنا أكثر عن فِطرة ما كان في ذلك الموسم من حالات وحكايات . كأن الناس كانوا في موسم قطف الزيتون، أو بناء معبد كبير، أو كأنما يريدون تحويل نهر عظيم عن مجراه، أو إزاحة البحر إلى الوراء .. لهذا لم يتأخّر أحد! كان الرجال أطفالاً وشباناً وشيوخاً في الحقل أو البرّ، وكانت النساء يكملن أعمالهن في البيت دون توقّف!
ولعل التاريخ لم يشهد حالة انشغال دائبة مثل التي كانت، أيام تلك الانتفاضة الكبرى - ولا أقول الأولى - عكس انتفاضة الأقصى التي قيّدت الكثير من الناس، واقتصر فعلها على جيل محدد، يتمتع بلياقة رمي الحجارة واستعمال المقلاع، أو على المُدَرّبين جيداً على استخدام السلاح والرشاشات، ما جعل الكثيرين، وبالتحديد القاطنون في المدن المحررة "المناطق أ"، يبحثون عن دور مباشر لهم في هذه الانتفاضة، فلا يجدونه! مما جعل الكثيرين يرزحون تحت وطأة ضميرهم وسؤاله القاسي الممض، وهم يرون الشبان الصغار يبتلعون أدوارهم، ويتربعون على عرش المشهد السخيّ الجريء .
كما أن المرأة تراجع دورها كثيراً، ولم تهيئ لها هذه الانتفاضة " الأقصى " ذلك الدور الواسع العملاق الذي وفّرته لها الانتفاضة الكبرى، حيث حلّت المرأة مكان زوجها الذي اعتقلوه، فأصبحت أماً وأباً، وعمّق حضورها ذلك الدور الاجتماعي المشرّف الذي ظهر في تشييع الجنازات التي طالما انتهت باشتباك طاحن مع جنود الاحتلال، وفي عيادة الجرحى، ومواساة العائلات الثكلى، وزراعة المساكب والخضروات، وتطوير الاقتصاد البيتي ..
ولم نسمع أحداً يسأل عن مصير أُسرته، وهو في حمأة الزنازين، أو في عين المتراس الحمراء .. ولم يخلع الناس - آنذاك - التطهريّة التي تليق بالأولياء والفلاحين البعيدين .. ولم يسقط رجل في إغراء المقارنة بين الطبقة المستريحة الحريرية، التي تشكلت في السنوات الأخيرة، وبين أحوال الدهماء أو الرعاع - هكذا يسميّهم البعض - ، وينظر إليهم على أنهم ليسوا أكثر من حطب، يصلح للاشتعال تحت طنجرة السياسة حتى تنضج، وبالتالي لا يأكل منها إلاّ الطبّاخون المعلمون، أو المَهَرة .
وفي تلك الأيام، كان الانضباط أعلى، في السنوات الثلاث الأولى، وكان جدار الانتفاضة صلباً، لم تخترقه الأصابع الخفية المدسوسة، أو الشائعات السوداء . وكان الاستنفار كاملاً، ولهفة الناس حاسمة، حيث نكشوا حواكير بيوتهم وزرعوها، ورموا المنتجات الاسرائيلية، وكانوا أكثر قناعة بالتقشف الحقيقي الذي فاق زهد الرهبان في الجبال الجرداء، ولم تكن – حينها - تلك المجموعة التي تدبّ الآن بين الناس، تشدّها مصلحتها - بصفتها كمبرادور يستورد البضائع الإسرائيلية، أو وكلاء لكبرى شركات الدولة العبرية - أو يدفعها طموحها الأجوف - بصفتها، كما ترى نفسها، مؤهلة لوراثة الحكم، أو من أولي الأمر الذين يجب أن يصنعوا القرارات المصيرية للشعب والقضية - .
وفي تلك السنوات، كانت عبقرية الانتفاضة تتمثل في تحييد أسلحة الاحتلال الثقيلة، باعتمادها على الحجر والمولوتوف، كما تتمثل - أيضاً - بالالتزام الحديدي والدقيق بالقرارات التي كانت تصدرها القيادة الوطنية الموحدة عبر بياناتها آنذاك .
أيام الانتفاضة الكبرى كان لها لون واحد هو الأبيض الذي يسعى للانتصار على الأسود بكل مكوناته ومصادره . ولم يدخل الرماد إلاّ بعد ثلاث سنوات أو أكثر، من بدء ذلك الانفجار العبقري الواسع والعميق .
في تلك الأيام، كانت روح الجندي المجهول تمور في ضلوع كل الناس، فكان التكاتف والتكامل والتكافل قد وصل إلى أقصى صوره ودرجاته، إلى حدّ أستطيع أن أقول، دون مبالغة: إن المليونين ونصف المليون فلسطيني في الضفة والقطاع كانوا أُسرة واحدة، فالأب للجميع، والأم والدة كل الأبناء والبنات، والأولاد أشقاء نزلوا من مجرى واحد وعسيلة واحدة، يتشابهون إلى حدّ التوأمة، ويتسامحون إلى أن أصبح الإيثار لغة منحوتة، لا يغلبها قولٌ مشبوه أو صراخ حاسد .
تلك الانتفاضة غسلت الجسد الواحد، من كل أدرانه وشوائبه، بعد أن صهرته في مرجل هائل، وسكبته لامعاً مضيئاً، لا طريق له إلا الأمام، بعد أن أحرقت، هنا وهناك، تلك الجيوب المُعيبة؛ سواء أكانت بؤرة للمخدرات، أم السقوط الأخلاقي، أم علبة لليل القاصف، أم بقعة كريهة متصلة بالاحتلال، أم الشقاوة المريبة.
تلك كانت التاج الذي أكمل حجارته المسحورة، والعُرسَ الذي اكتمل إلى حدّ المعجزة، والحجر الخرافي الذي حكّ هواء الفولاذ، فدبّت النار في هشيم الدنيا، وفهقت السماء بنجومها، فغاب الليلُ .. إلاّ قليلاً .. بانتظار الشروق الكبير .