ردود الفعل على فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتوقف، ويبدو أنها لن تتوقف، خصوصاً إذا أخذنا بوجهة النظر التى ترى أن ما حدث فى أمريكا، بفوز ترامب حدث شديد الأهمية والخطورة يكاد يكون بمثابة «الربيع الأمريكى» وأن رياحاً من الشرق الأوسط قد امتدت إلى الداخل الأمريكى وحدث ما حدث؟
السؤال المهم بهذا الخصوص هو بالفعل ما الذى حدث فى أمريكا؟ هل ما حدث كان مجرد تصويت انتخابى على شخص مرشحين أحدهما يمثل الحزب الديمقراطى والآخر يمثل الحزب الجمهوري؟ أم أن التصويت كان على أشياء أخرى أكثر أهمية، وبوضوح أكثر أن التصويت كان على أمريكا نفسها، أى نموذج الحياة والسياسة والحكم فى أمريكا بقيمه وسياساته وآلياته؟ أما السؤال الأهم فهو: هل ما حدث يعتبر شأناً أمريكياً خالصاً، أم أنه مؤشر لتيار من التحولات والقيم السياسية الجديدة لها جذور ولها امتدادات فى مجتمعات أخرى وخاصة المجتمعات الأوروبية الأمر الذى من شأنه أن يجعل ما يمكن اعتباره ربيعاً أمريكياً أكبر وأوسع من ذلك بكثير والتعامل معه على أنه «ربيع عالمى»؟
الإجابة على هذه الأسئلة تعيدنا مجدداً للبحث عن إجابة للسؤال المحوري: ما الذى حدث فى أمريكا إن لم يكن الذى حدث ليس مجرد التصويت لأحد المرشحين؟
هناك منظوران للإجابة عن هذا السؤال؛ الأول منظور طبقي- اجتماعى، والآخر منظور عرقي- عنصرى، والمنظوران يكملان بعضهما البعض، وهما يعتبران من أبرز نتائج ومخرجات موجة «العولمة النيوليبرالية» أى العولمة المرتبطة بنموذج الرأسمالية الليبرالية الجديدة التى أخذت طابعاً «توحشياً» عقب انهيار النظام العالمى ثنائى القطبية وسقوط الاتحاد السوفيتى وتعامل الغرب الرأسمالى والأمريكى بالأخص مع هذا السقوط باعتباره «انتصاراً نهائياً وتاريخياً للرأسمالية».بعدها جاء اجتياح موجة العولمة النيوليبرالية للعالم كله وفرضت شروطها ومنظماتها وآلياتها على كل العالم، وعلى الأخص «اتفاقية الجات» التى فرضت حرية التجارة، ووضعت قيوداً على إرادات الدول وسياساتها الحمائية لاقتصادياتها وجعلت نفوذ الشركات الكبرى يتفوق على سلطات الدول.
من بين نتائج هذه العولمة المرتبطة بـ »النيوليبرالية« (الليبرالية الجديدة) كان انتقال الصناعات الكبرى كثيفة العمالة من الولايات المتحدة وبلدان أوروبية إلى دول شرق آسيا حيث العمالة الرخيصة، الأمر الذى أدى إلى انتشار البطالة فى صفوف الملايين من العمال الأمريكيين والأوروبيين، كما أدى إلى إفقار الطبقة المتوسطة. كما أدت التداعيات الاقتصادية بعد عام 2008 (الأزمة المالية الاقتصادية الأمريكية الكبرى التى هزت كيان النظام الرأسمالى فى الولايات المتحدة) إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وغابت المساواة، وانتشرت البطالة بين ملايين الشباب، ودفعت بالكثيرين إلى تحت خط الفقر، وتحولت مجتمعات هذه الدول إلى ما يعرف بـ «مجتمعات الخطر». كانت أصداء تلك التحولات شديدة فى دول جنوب القارة الأوروبية خاصة اليونان وفرنسا، ولم تسلم ولايات أمريكية عديدة من هذه التداعيات التى حولت ملايين المواطنين إلى معارضة للنظام وللسلطة وللمؤسسات الحاكمة ومن بينها الأحزاب الكبيرة التى كانت شريكة فى الحكم وهجرتها إلى أحزاب وقوى سياسية أخرى تعمل ضد النظام رأوا أنها «لم تلوث بالسلطة»، نجاح الحزب الوطنى الاسكتلندى، والانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبى، وفوز فرانسوا فيون بالجولة الأولى فى الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين الديجولى، وارتفاع شعبية مارين لون رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» الأكثر رجعية ويمينية وعنصرية فى فرنسا، ثم، وهذا هو الأهم هو فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، هذه كلهامؤشرات مهمة لهذه التحولات. أغلب الذين صوتوا لدونالد ترامب لم يصوتوا له باعتباره مرشح الحزب الجمهوري، بل لأنه ضد الحزب الجمهورى وضد كل من ترشحوا باسم هذا الحزب، اختاروا ترامب من بين 16 مرشحاً جمهورياً يمثلون، فى نظر هؤلاء الناخبين، مؤسسة الحكم التى باتت مرفوضة. معظم هؤلاء الناخبين كانوا من الطبقة العاملة ومن ملايين الناخبين غير الجامعيين، كل هؤلاء تمردوا على مؤسسة الحكم وأحزابها لأن سياسات هذه المؤسسة أفقرتهم وجعلتهم فريسة للبطالة القاسية. استطاع ترامب أن يجتذب كل هؤلاء الناخبين الساخطين والمتمردين والمطالبين بالتغيير لأن خطابه المعارض للسلطة وللمؤسسة الحاكمة بشقيها الديمقراطى والجمهورى وجد آذاناً صاغية عند هؤلاء. هذا الذى حدث فى الانتخابات الأولية للحزب الجمهورى وفرض ترامب مرشحاً للحزب رغم أنف قياداته، حدث أيضاً بالنسبة للناخبين المحسوبين على الحزب الديمقراطى عندما صوتوا للمرشح اليسارى (الاشتراكي) بيرنى ساندرز الذى حصل على أصوات الطبقة العاملة لتمرده أيضاً على مؤسسة وقوى الحكم، لكن هيلارى كلينتون استطاعت أن تفوز بترشيح الحزب الديمقراطى لأن القاعدة الانتخابية الأوسع لهذا الحزب هى من المتحمسين للخطاب السياسى لهذا الحزب، وخاصة دعمه للتعددية وحقوق الأقليات والمرأة والحريات الاجتماعية وهؤلاء كلهم صوتوا للمرشحة كلينتون، لكن عندما دخلت كلينتون فى المواجهة أمام ترامب صوتت كل الطبقة العاملة ومعهم كل الذين يعانون البطالة والفقر والتمييز من ناخبى الحزبين الجمهورى والديمقراطى لصالح ترامب. أما المنظور العرقى - العنصرى الذى ساهم فى انتصار ترامب فكان تمرد الناخب الأمريكى على وجود الملايين من الأجانب من ذوى الأصول غير الأمريكية الذين يشاركونهم فرص الحياة التى أضحت بائسة وضيقة. فقد طرح ترامب، شعارات استعلائية أثارت نشوة الملايين من هؤلاء الأمريكيين المتعصبين ضد المهاجرين الذين يعتبرونهم منافسين لهم فى العمل وفى المكتسبات الاجتماعية، كل هؤلاء توحدوا جميعاً تحت راية الانتماء العرقي،وشعارات ترامب بطرد ملايين المهاجرين.
هذه الدوافع الطبقية الاجتماعية أولاً والعنصرية اليمينية ثانياً هى التى وفرت الفوز لدونالد ترامب، لكن يبقى السؤال المهم وهو هل ترامب هو الرجل المثالى للتمرد الذى يريدونه ضد مؤسسة الحكم؟ أم أنه الاختيار الخاطئ، وأنه بحكم معتقداته لن يكون نصيراً للعمال وهو الرجل الذى ينتمى إلى طبقة كبار الأغنياء والأثرياء فى العالم ولن يكون الرجل الذى يحارب ضد سياسات العولمة النيوليبرالية، كما أنه لن يكون زعيماً لسياسات تتعارض مع مصالح الطبقات الغنية لصالح الطبقات الفقيرة، كما أنه لن يستطيع لأسباب كثيرة طرد ملايين المهاجرين، وعندها سيدرك كل هؤلاء الأمريكيين الذين صوتوا له بحماس أن تمردهم الذى قاموا به على مؤسسة الحكم لم يحقق نتائج كانوا يأملونها، وأن ربيعهم لم يأت بعد، وعليهم أن يسعوا مجدداً للبحث عنه وعن آلياته الأجدر على تحقيقه إن كانوا جادين فى تمردهم.
عن الاهرام