التشكيلي أسعد في معرض "التفاف": إبداع تصويري عال

3
حجم الخط

التشكيلي الفلسطيني الشاب رأفت أسعد في معرض "التفاف": إبداع تصويري عال وتأويل يثير التساؤلات

 

طبيعة جميلة، محجوب جزء منها، للوحات الحاضنة لها خلفية وأفق أبيض، وصناعة الإنسان في المكان، من شوارع ولزومها، ألوان، وتشكيلات مختلفة من العوارض والشباك، والألوان المتفق عليها عالميا لتقود المركبات، كالأصفر والأبيض. لوحات تدخل الرائي إلى المكان الطبيعي والصناعي، المتعانقان بجماليات خاصة لكل منهما، فللطبيعة جمالياتها الواعية والتجريدية بتلقائيتها، وللخطوط والأشكال الهندسية جمالياتها التجريدية أيضا برغم ما تم التخطيط له.

 

هي سردية الماشي-السائر على الطرقات، أرأى ذلك بسرعة مرور المركبة، أو بمرورها البطيئ او بوقوفها الجبريين.

 

والطريق تعني فيما تعنيه غير الطريق وما حولها: البيت؛ لسبب موضوعي بسيط، أننا لا ننطلق فيها إلا بأمل العودة إلى مكاننا الأول.

 

يدخلنا معرض "التفاف" في اشتباك فلسفي مع ما ذكره الشاعر الفلسطيني محمود درويش في نصه "أنا من هناك"، حين تغيرت نظرته تجاه البيت والطريق: الوطن والعودة.

 

كان يقول درويش: "البيت أجمل من الطريق الى البيت" ثم غيّر ليقول " الطريق الى البيت أجمل من البيت"، أما تبريره فهو: "لأن الحلم يكون دائما أكثر جمالا وصفاءً من الواقع،الذي أسفر عنه هذاالحلم..."

 

لربما يأتي شاعر ليقول: البيت والطريق إليه، كلاهما أجمل من الآخر.

 

ترى إلام انحاز الفنان رأفت أسعد في معرضه المقام حاليا في رام الله؟

 

للفنان أن يرى، ويرينا كيف رأى، ولنا أن نرى الأمرين معا، لنقرر ما نرى!

 

مقولة قد تنطبق على الأدب والفن، والحياة: الشعور والفكر. والفن بمعنى من المعاني هو ما يثير فينا الفكر والشعور، وهو يتجاوز ما قد خلق لأجله.

 

معرض الفنان التشكيلي الفلسطيني رأفت أسعد، بما أعلنه عما يشعر ويفكر، تجاه واقع الحركة على الأرض الفلسطينية المحتلة، يدفعنا للتفكير في كل ما ذكر.

 

كل ما ذكر صحيح، بما يحتمل الفن من رؤى، وتأويلات الفنان والمتلقي، خصوصا حين يعرض لوحاته داخل فلسطين، للمارين معه على الأرض. ولغير الفلسطينيين أن يروا ما يرون، بعيدا عن معرفتهم بالواقع، وبعيدا عن الشعور.

 

ماذا رأى من واقع وطبيعة؟

 

قال الفنان رأفت أسعد: فكرة "التفاف" تقوم أيضاً على تسليط الضوء، بشكل أو بآخر، على كيف تحولت الطرق الالتفافية أو فلسفة "الالتفاف" إلى ثقافة فلسطينية منذ العام 2002، مع تقطيع أوصال الضفة الغربية بمئات الحواجز العسكرية، إضافة إلى جدار الفصل العنصري .. معرض "التفاف" يسلط الضوء على رحلاتي ما بين رام الله ونابلس في الخمس عشرة سنة الأخيرة، وجدليات الطريق، والوصول، والطبيعة ما بين الانتباه والإهمال، وما بين العموميات والتفاصيل."

 

وهو ما له علاقة مباشرة بالواقع الفلسطيني، خصوصا أثر الاحتلال في السطو على سفر الناس في مكانهم، وتنقلهم فيه، والذي هو عرضة للمساءلة، وتغيير المسار، أو تأخير المارين. وتتفاوت الصعوبات من وقت لآخر، حيث يصبح هم العودة الى البيت سالما هدفا كبيرا، كما ابتدأنا بما اقتبسناه من عبارة محمود درويش.

 

لذلك حاول "أن ينقل إلى جمهوره في معرضه الجديد التغيرات التي شهدتها الطبيعة بفعل نشاط الإنسان" قائلا: "رغم أن الإنسان لا يظهر في هذه اللوحات، إلا أن أثره واضح في ما ألحقه من أضرار في الطبيعة".

 

وذلك ب"تسليط الضوء على تأثير الإنسان وعلاقته بالطبيعة ومعها، وحضوره فيها سلباً وإيجاباً، حيث "اللوحات الإعلانية الضخمة"، والإسفلت الذي يأكل الطبيعة"، موضحا أن معرضه يهدف "إلى وضع الإصبع على الجرح والتذكير بأهمية الأرض بالنسبة للفلسطينيين الذين يعرفون قيمة كل شبر منها في ظل هذا الاحتلال.".

 

وما رآه الفنان نراه هنا، نحن الذين واللواتي نعيش هنا.

 

كيف رأى؟

 

أما كيف عبّر عن ذلك، فقد تم ذلك من خلال تصوير فني تشكيلي جميل، جعلنا نغير انطباعنا المسبق قبل زيارة المعرض، بأن فكرة المعرض تستلزم معرض تصوير فوتوجرافي.

 

من خلال 16 لوحة فنية، يصل قياس بعضها إلى عدة أمتار، عبّر اسعد عن رؤيته الواقعية الشعورية، بصريا، بالاتكاء على توسط الطبيعة ما بين الأفق الأبيض وسواد إسفلت الشوارع، حيث كان اختياره للأفق الأبيض بدلا من الأفق الأزرق السماوي إيحاء للمسافة الرمزية بين الخير والشر.

 

ومن أبرز لوحات المعرض لوحة طولها 11 مترا، وعرضها يقارب المتر ونصف المتر، تظهر فيها طريق وطبيعة، نكاد نحس فيها ملمس المعدن لقدرة الفنان في التصوير. وهو يظهر تمكن الفنان من تشكيلاته الفنية. كما تظهر جماليات الشبك والوان الشوارع، وتكوينات المنظور، وإطار النظر ونقصد به مكان المشاهدة، ناهيك عن جماليات الطبيعة المدهشة، واختيار التجريد الواقعي الذي كان مناسبا لمضمون المعرض، رغم إشكاليات توصيفه وتحليله.

 

وقد ذكر أن اللوحات لا تميز ما إذا كان هذا الأثر بسبب الإنسان الفلسطيني أو الاحتلال الإسرائيلي، الذي يشوه الطبيعة الفلسطينية، بإقامة العديد من الطرق الملتفة التي تخترق السهول والجبال من أجل وصول المستوطنين اليهود إلى مستوطناتهم.

 

كما ذكر أن كثير من اللوحات ترمز إلى تناقص المساحات الخضراء بشكل تدريجي، وتشوه جمال الطبيعة، ليحل محلها لون أسود يبتلعها، فتظهر الشوارع بلون أسود وخطوط بيضاء وصفراء وحمراء وحواجز حديدية.

 

ويقول أسعد في كتيب يُوزع خلال المعرض: "في هذا العمل وعلى مدار سنة من البحث والتجريب، وخلال تجوالي في أنحاء وأرجاء الوطن، لفت نظري كل ما حصل من تغيير عابث أفقد هذه الطبيعة بكورتها وفطرتها.".

 

وقد دعّم أسعد فكرته بما وصفه ووف البروفيسور والفنان التشكيلي البريطاني آندرو ستال، رئيس دائرة الرسم والتصوير للبكالوريس في جامعة سليد للفنون الجميلة، حين قال: "لوحات أسعد في تقديمه للمعرض بأنها "تطرح موضوع الحواجز السياسية والحبس داخل إطار الحداثة، حيث نقبع في فخ مشهد صنعته يد الإنسان.". وأضاف في كتيب عن المعرض "لقد جاءت هذه اللوحات لتكشف التناقض بين أفق جمالية المكان وما يتدفق من قيود ورقابة لامتصاص روح وجمال الطبيعة.".

 

ونحن نرى!

 

بالرغم مما أعلنه الفنان وصرّح به للإعلام حول منطلقات لوحاته، وبالرغم من حديث البريفسور البريطاني آندرو ستال السابق، فإننا لا نرى أن الربط المطلق حول التناقض بين التكنولوجيا والطبيعة مقبولا، فهذا شيء، وذاك شيء آخر. أما إذا كان هدف اللوحات هو كشف سطو الاحتلال العسكري الإسرائيلي المرتبط بسطو المستوطنين، فهذا أمر آخر، له أدواته الفنية اللازمة؛ حيث لم يظهر الاحتلال، بل يمكن أن تنطبق اللوحات على بلاد كثيرة، فأين خصوصية فلسطين تحت الاحتلال؟ كما أن المساواة في صنع الإنسان الفلسطيني من خلال اللوحات الإعلانية، مع ما يصنعه الاحتلال ليس متقبلا. وهو ما ساواه البريفسور ستال حين تحدث عن " تدخلات بشرية عابثة ولاهثة خلف مصالحها الضيقة التي تفترس بكورة هذا الجمال دون رحمة"، ولا ندري لم لا نسمي الأسماء مسمياتها؟ لماذا هذه المساواة الاستشراقية بين فعل أصحاب المكان، والاحتلال!

 

نحن نرى أن المكان-الفضاء الفلسطيني، حتى وإن تم استلاب جزء منه للمستوطنات والمعسكرات والطرق الخاصة للمستوطنين "الطرق الالتفافية"، فإنه ما زال هو المسيطر على المشهد الطبيعي، ليس في الضفة الغربية المحتلة، بل في فلسطين المحتلة عام 1948. وأنه كان الأجدى برأينا، لو تم تقزيم الاحتلال والمستوطنات، وإعلاء شأن الفضاء الفلسطيني، لا أن تسطو عوارض الشوارع المعدنية على الوطن الطبيعي الواسع والرحب.

 

وبالرغم من الحالة النفسية الشعورية للركاب والراكبات، الذين يتوقون لعودة سالمة لبيوتهم، والذين لربما انشغلوا عن المكان لفترات معينة لها علاقة بالتوترات والحواجز الاحتلالية، إلا أنه من الصعب أن يكون ذلك مطلقا.

 

لذلك فإن النظرة لكثير من اللوحات "كرمز إلى تناقص المساحات الخضراء بشكل تدريجي، وتشوه جمال الطبيعة، ليحل محلها لون أسود يبتلعها، فتظهر الشوارع بلون أسود وخطوط بيضاء وصفراء وحمراء وحواجز حديدية"، هي نظرة رومانسية استشراقية حالمة؛ ففي الواقع والحقيقة، ليس هناك مثل هذا التناقض بين الطبيعة والحداثة، بل التناقض هو مع الاحتلال، والذي لم يظهر هنا.

 

لذلك أزعم أنه لو ترك الزوار لمشاهدة المعرض دون أن يتم تزويدهم بتلك المنطلقات لكان أفضل، لأنها بدت متكلفة سطت على إبداع الفنان الشاب رأفت أسعد، الذي يبرز موهبته التصويرية في أروع حلل فنية.

 

ويأتي معرض "التفاف"، هو عنوان المعرض الشخصي الجديد للفنان الفلسطيني رأفت أسعد، المقام في مقر "جاليري 1" بمدينة رام الله، بعد سلسلة معارض شخصية تناولت الطبيعة الفلسطينية بأشكال متنوعة في السنوات العشرة الأخيرة، كان أولها معرض "رواية" وكان معرضاً تجريدياً حول الطبيعة، تلاه معرض "خرائط الطبيعة"، وتعامل فيه مع ثقافة استخدام الخريطة في تحديد الأماكن، وأطلقه في العاصمة البريطانية لندن، ليتكرس بالثالث "مرج بن عامر" العام الماضي، حيث تعامل مع المناظر الطبيعية (Land Scape) بلغة مغايرة، قبل أن يعيد في "التفاف" صياغة ما جاء في "مرج بن عامر"، مع تسليط الضوء على تأثير الإنسان وعلاقته بالطبيعة ومعها.