كان عليَّ أن أصرخَ بأعلى صوتي؛ لعلّها تسمع تأوهاتي، لكن كيف أصيحُ والسيفُ مغروسٌ في قلبي؟! لم يشفعْ لي عند هذه القلعة الحصينة لا جرحي ولا دمي المسفوح على حيطانِ مدينتي الحزينة أو قلمي المعلّق ببحرِها الساكن بي ليلَ نهارْ! كيف تسمعني من خلف جدران تلك القلعة وهي في أقصى مدينةُ الآلهة المتغولة؟! المدينة المتوحشة والموحشة بما يحيطها من الأسوار وأشجار التمور العالية التي لا يهز جذعها يد مغلولة في مخاضٍ عسيرْ ولا قابلة تَشقُ خاصرتي فيُبعث منها رسل الخلاص.
لم أجدْ طريق أسلُكها بعد نفاذِ ذخيرتي غير طريق الصمت، فمضيتُ بجرحيَّ النازف إلى ذات النُزل؛ كي أنجو بمنزلي هذا من صُلبان القياصرة وهذيان الكهنة والأباطرة، مرَّ بي طيفُها فَطِرتُ بذاكرةٍ كانونية في ليلة شتاءٍ قارسة انتشلتُها من تحت أنقاض ظلاليَّ الكسيرة وصعدتُ بها إلى مَسكَني، وأمسكتُ بأطراف المساء قُبيّل وجوم الليل وناجيتُها:
- ألا تأذني لي يا سيدة هذا المنزل بلحظةِ تَجلٍّ لمحاربٍ عاد من معركة طوفانٍ جارف لا تعرف للكلمة تصوف ولا معنى ولا مكان.
تردّد صدَى صوتها من أقصى المدينة قائلة:
- أنا آسفةٌ لأنني في الفراش طريحة، عزَّ علي دماؤك المضرجة على باب مدينة البردِ والضبابْ وجُرحك النازف من وقع حِراب السدنة اللئام.
ضربتُ كفٍ بكف وهمهمتُ:
- ما كنتُ أحسبُ بأنني ركضتُ خلف وهمٍ وسراب، كنتُ أظنُ بأن رسل الآلهة تنبعثُ من طين،ْ وإذ بها تنفخُ اللهب والنار في عيون من يقرأ السلام.
تنَهدتْ بملء الحسرة وهمَست:
- لا عليكَ يا سيد الكلمات دَعْ عنك كل هذا الحزن وامضي إلى مدينتك الحالمة؛ لعلّ بحرها يحملُك إليَّ ثانيةً ونغرقُ في حِبرنا لحظة انصهار ونكتبُ ما يليق من أشعار تحت ندف المطر وفي رحاب غُسل الأرض الآسِنة.
اختفى صوتها كزبدِ البحر وغلبني النعاس حتى غفوتُ وفي قلبي غصة، لم يشف غليلي لقاء دافئ بعد لسعة بردٍ أتت على أطرافي كلها؛ لعلّها تشتعل فتضيء لي درب عودة إلى مدينتي الحزينة عودة لظلي الظليل ولطاولتي المتكدسة بأوراقي المتعبة من طول السهر وأقلامي المنهكة من سيلِ الرصاص وتفشي الحبر في زمن الهزيمة والانكسار.
______________
غزة الكسيرة في
كانون الأول 2016م