ستظل الانتفاضة الأولى من الأحداث القليلة التي يتذكرها الفلسطينيون بالكثير من الحنين، وينظرون لها بتمجيد واعتزاز كبيرين.
كثير من هذا الحنين مترابط بالطبع بما كانت عليه الانتفاضة من فعل ثوري شعبي عفوي تضامني تشاركي، لكنه ربما مرتبك، ربما أكثر بكونها كل ذلك وسط سلسلة طويلة من الأحداث والخيبات والتراجعات التي حفلت وتحفل بها حياتهم السياسية منذ قرابة قرن من الزمن منذ أصدر بلفور سيئ الذكر وعده المشؤوم العام 1917.
وربما لمفارقة لحاجة البعض إلى التمحيص فإن ثمة لحظة تاريخية أخرى كانت تحفل بها الذاكرة الشعبية الفلسطينية وتستعيدها بالكثير من الحنين والتأمل والبكاء ربما وتمثلت تلك في إضراب العام 1936.
بالطبع لا يوجد منا من عاش تفاصيل هذا الإضراب أو تلك الثورة الشعبية أيضاً قبل ثمانين عاماً.
(من الملاحظ كان هذا العام 2016 الذكرى الثمانين للإضراب الأشهر في تاريخ الشعب الفلسطيني السياسي ولم يحفل أحد بذلك، وهذه قضية أخرى تتعلق بموجودات الذاكرة الشعبية) عموماً تستعيد الذاكرة الشعبية الفلسطينية إضراب 1936 بالكثير من الحنين والتأمل، وتنظر إليه بعاطفة كبيرة.
فالإضراب أيضاً من تلك اللحظات القليلة التي تعود لها العاطفة السياسية الفلسطينية محملة بعناقات وابتسامات وحسرات ربما على الزمن الجميل الذي ذهب.
حدثان مفصليان ربما في السياسة الفلسطينية رغم أنهما لم يراكما نجاحات باهرة على الأرض .
بمعنى أنهما كانا فعلين كبيرين بحد ذاتهما لكنهما لم يعنيا انتصارين كبيرين.
كانا انتصارين للإرادة الشعبية وللطموح الميداني وعكسا قوة جماهيرية منقطعة النظير في تكاتف الشعب بفئاته وشرائحه المختلفة. وربما وبنظرة خاطفة إلى ما ميز هذين الحدثين يمكن للمرء أن يقف على مشارف الوعي الشعبي الجمعي في بحثه عن تقدير بعض الأحداث على حساب البعض الآخر وفي ترجمة هذا التقدير إلى تخليد واسترجاع واستلهام.
وربما الأمر بحاجة لشيء من البحث العلمي المفصل حول ذلك يتعلق أيضاً بعلم النفس السياسي وعلم نفس العاطفة الشعبية، وهذه قضية أخرى.
لكن المؤكد أن ثمة ما يمكن تعلمه من ذلك سيساعد بدوره في الكشف عن كيفية تقديم معالجات ومقاربات سياسية أكثر قرباً من الناس تقول لنا ماذا يتوقع الناس من الفعل السياسي وماذا يريدون من النشاط السياسي أن يكون. فالناس عادة تقع تحت قبضة الفعل السياسي الخارجي حين تجد نفسها غير فاعلة في تحديد مساره، وبالتالي قد تنهمك به وتنشغل بتفاصيله لكنها لا تجد نفسها بعد زمن مثلاً قادرة على تقديره ووضعه في ذاكرة خصبة من التفاعل الناجم عن البحث عن تصالح مع المستقبل انطلاقاً من إيجاد معادلات تصلح للبناء على الماضي.
والغوص في الذاكرة، كفعل بشري وأيضاً استرجاع سياسي، يعكس حالة خيبة من الواقع وعدم مقدرة على إيجاد معادل موضوعي يفسر ما يجري، لذا تتم العودة عبر الذاكرة الفردية أو الجماعية للماضي لعل ثمة واقعاً أفضل هناك.
عموماً فإن ارتباط ذاكرة الناس بالشيء التضامني التشاركي الشعبي العفوي كما كانت عليه الانتفاضة الأولى وما كان عليه إضراب العام 1936 يفتح سؤالاً واسعاً حول ماهية الفعل السياسي الذي يصمد ليس في ذاكرة الناس، بل ويترك انطباعاً إيجابياً عندهم حول السياسة.
وهذا سؤال أكبر بدأ منذ فجر الفلسفة وتاريخ التكوينات السياسية يتعلق بماهية السياسة وطبيعتها وعلاقتها بالناس ومفهوم القيادة والجماهير.
ولكن جوهر كل ذلك يشير إلى أن الفعل القادر على التأثير هو الفعل الصاعد من أسفل إلى فوق، إنها القاعد الذهبية للثورة الشعبية التي يكون فيها المواطنون ليسو حوامل التغير، بل هم صناعه وقادته.
ورغم، أيضاً للأنصاف، وجود الكثير من المحطات المضيئة في التاريخ الفلسطيني المعاصر الحافل بالمآسي، خاصة تلك المرتبطة بانطلاقة الثورة الفلسطينية والعمل المسلح والفعل الثوري سواء في الداخل أو في الخارج والشعور بالزهو والكبرياء بعد بعض العمليات البطولية الناجحة، إلا أن ثمة ارتباطا خاصة في ذاكرة الناس بالانتفاضة الأولى حديثاً وسابقاً بإضراب 1936، ارتباط يتعلق أيضاً ليس بحالة انتصار ما أو بتفوق من نوع خاص أو حتى بمآلات كبيرة وناجحة لما بعد الفعل المذكور، بقدر ارتباطها بكيف نظر الناس لدورهم في العمل السياسي وكيف ارتبطوا بالفعل اليومي الكفاحي الذي كان أساسه اشتباكهم في كل ثانية مع الاحتلال من لقمة العيش حتى المواجهة الجسدية.
الناس لا تنظر إلى المآلات في مرات كثيرة بقدر محاولتها موضعة نفسها ضمن الفعل، بمعنى حاجتها لأن تجد أن الفعل السياسي والكفاحي مرتبط بها وبدورها وبفهمها لهذا الدور.
من هنا فهي تفضل أدواراً على أخرى، وترغب بطبيعة مشاركة من نوع خاص.
لاحظ مثلاً أن نتائج الانتفاضة الأولى على ما حملت من أمل لم تكن من وجهة نظر شعبية محققة للكثير من الآمال رغم ما أشيع وقته من تحقيق السلام وخروج الكثيرين فرحين بذلك. ورغم أن وجود السلطة الوطنية بعد ذاك كان شيئا إيجابياً إلا أن نتائج ما بعد الانتفاضة لم يكن لها علاقة بخروج المواطنين في ذلك الصباح من كانون الأول العام 1987 للشوارع منتفضين.
الأمر ذاته لصيق بنتائج إضراب 1936 خاصة بعد تدخل الأنظمة العربية لقتل الطموح الوطني الفلسطيني.
عموماً ما أرمي إليه أن ثمة ما هو أبعد من مجرد النتائج، بقدر ارتباطه بعملية المشاركة، وبفهم الناس لطبيعة دورها ورغبتها في أن تجد نفسها وسط الفعل السياسي.
ليس للأمر علاقة بالبحث عن دور مزعوم للمواطنين بقدر كشف عمق طبيعة فهمهم للسياسة.
وهذا بدوره سؤال يتعلق أكثر من مجرد استرجاع ذكرى الانتفاضة الأولى التي لا يمكن لنا أن نمر عليها مرور الكرام، ولا الذكرى الثمانين للإضراب الشهير العام 1936.