أجيال

حسن البطل
حجم الخط

يومياً، صباحاً عصراً.. ومساءً، أمرق من زاروب مرصوف ببلاط صناعي في رام الله ـ التحتا (تجتازه السيارات على خطين مع ذلك). مع ترميم هذا الحي عام 2008، كجزء من إنشاءات مئوية رام الله، صار الزاروب هذا، بين شارعي "الشقرا" والست "بهيّة" مقراً لمركزين ثقافيين: "الكمنجاتي" وورشته للآلات الموسيقية، وكذا "مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي".
اسم "تامر" محرز في اللغة، وشغله الثمار نقل لقاح شجرة نخيل مثمرة إلى أخرى عاقر، يعني "تركيب" كما يقولون عندنا.
كنت أتصفّح ملحق "يراعات" الذي كان يصدر مع جريدة "الأيام" لبواكير واعدة للأقلام الشابة. لو أن مؤسسة تامر طفل يذهب إلى المدرسة، لكان صار عمره، الآن، ثماني سنوات، أي في الصف المدرسي الثالث، لكن مبنى المؤسسة هو أنجح وأجمل ما في ترميم الحي، وشعارها جميل: وردة حمراء تنبثق من صخرة حجر مربعة!
ذكرتُ المؤسسة بالخير، لأنها نشرت، هذه السنة، كتاباً عن أدب الأطفال، لمؤلفه إسماعيل ناشف معنوناً "طفولة حزيران"، ومحتواه عن "دار الفتى العربي وأدب المأساة".
المؤسسة تشكلت بدعم من "سيدا" السويدية، و"رواق" الفلسطينية، والكتاب الذي أعاده لي زميلي زياد خداش، صدر هذا العام بدعم "دياكونيا" السويدية ربما!
كان فضولي يدفعني لتصفح إصدارات "دار الفتى العربي" في أيدي أطفال إخوتي، ثم صارت ابنتي لديها مكتبة من إصدارات الدار لتعليم حفيدتي، إنكليزية الأب، لغة الضاد، الذي صادف امس 19 كانون الأول، اعتماده يوماً عالمياً قررته اليونسكو للغة العربية.
ما كنت أعرف، إلاّ من الصفحات الأولى لكتاب صادر عن "تامر" أن الذين بادروا لإنشاء "دار الفتى العربي" هم العاملون في مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، الذي يصادف اعتماد المنظمة لبرنامج النقاط العشر ـ برنامج السلطة الوطنية.
بعد هزيمة حزيران 1967 قال الشاعر سليمان العيسى إنه سيكرس أعماله اللاحقة إلى الأطفال الفلسطينيين والعرب!
الذين بادروا لإنشاء "دار الفتى العربي" راهنوا على تنشئة جيل جديد، من منظور يبدأ بالقضية الفلسطينية، أي إعطاء جواب أدبي تربوي لفشل الجماعة ـ الأمة العربية المتكرّر في تحقيق ذاتها القومية، بحسب نموذج الدولة القومية الحديث.
منذ تأسيس الدار، أوائل سبعينات القرن المنصرم، استطاع القيّمون على المشروع استقطاب أهم العاملين في مجال الأدب والفن وصناعة الكتاب في العالم العربي، من منظور القضية الفلسطينية والجماعة القومية العربية الواحدة، نقيضاً للمنظومة السائدة: الأبوية ـ الدينية سياسياً، والأدب التقليدي.
خلال عقدي 1974 ـ 1993 أصدرت دار الفتى العربي نحو 240 إصداراً، بين كتاب وملصق وكتالوغ، وطبعت 4 ملايين نسخة من مجمل إصداراتها، ولعبت المجموعة المصرية ـ الشامية دور نواة قيادية في هذا المشروع.
ليست دار الفتى العربي هي الفريدة أو الوحيدة في الاهتمام بأدب الأطفال لكنها التي تركز على المسألة الفلسطينية من منطلق حداثي ـ ليبرالي ـ يساري، وتكرس مجلة "العربي" الشهرية، الصادرة في الكويت، التي كانت من قراءاتي المفضلة في شبابي المبكر، ملحقاً لـ "العربي الصغير" للنشء الجديد، أو الأجيال العربية الجديدة.

 

مدارس الوكالة
اصطحبني صديقي، في طقس ماطر وعاصف، لأخذ ابنته من مدرسة بنات رام الله الأساسية، التابعة للأونروا، هي مدرسة جميلة في مبناها بحي الطيرة الحديث في رام الله؛ وهناك مدرسة أخرى للوكالة الذكور في رام الله، ومدرستان في مخيم الجلزون.
كم جيلاً من الأطفال الفلسطينيين تخرجوا من مدارس الوكالة منذ تأسيسها 1949، علماً أن صديقي لمّا كان في عمر ابنته، كان تلميذاً في مدرسة للوكالة في سورية.
ازدادت أعداد اللاجئين الفلسطينيين، جيلاً بعد جيل، ربما عشر مرات، ومنذ سنوات صارت الوكالة تركز أعمالها على قطاعي التعليم والطبابة، وتحرز نجاحات فيهما، خاصة في قطاع التعليم المدرسي، وأيضاً منذ عشرات السنوات في قطاع التعليم المهني.
لا تخلو هذه النجاحات من نزاعات عمل بين الموظفين ورئاسة الوكالة، التي اضطرت لإغلاق مؤقت لثلاث مدارس جنوب الضفة، لأن مدراء المدارس رفعوا على السارية العلم الفلسطيني بديلاً من علم الأمم المتحدة، وهي خطوة احتجاجية في غير مكانها وزمانها في رأيي.
مع خروج تلميذات مدرسة البنات الأساسية، خلت أن التلميذات أسعد حالاً في الصحة، وفي الملابس الشتوية الجميلة والدافئة، والحقائب الملونة على ظهورهن من حال أجيال الأطفال الفلسطينيين في مدارس الوكالة إبّان السنوات الأولى للنكبة، كأنهن في مدرسة خاصة لفئة خاصة من تلاميذ المدارس، وليسوا أولاد لاجئين، علماً أن المستوى المدرسي لمدارس الوكالة أحسن حالاً ونتائج دراسية من المدارس الحكومية، وحتى المدارس الخاصة في دول اللجوء كافة.
كنا أطفالاً في مدارس الوكالة نذهب إليها سيراً على الأقدام مسافات طويلة وفي كل طقس.. الآن سيارات المدرسة تنقل التلميذات والتلاميذ، أو سيارات أولياء الأمور، وللمعلمين والمعلمات سيارات خاصة.
***
زينة مدينة رام الله، استعداداً لأعياد الميلاد ورأس السنة أجمل وأشمل من سابقاتها في سنوات خلت، بينما ورشة تحسين مبنى البلدية وحديقتها مستمرة منذ شهور طويلة.
كانت هناك جدارية في المبنى، هي عبارة عن لوحة رسم "شجرة الحياة" التي رسمها أحد الفنانين الأجانب، ولا أدري لماذا تمّ استبدالها بصورة فوتوغرافية هائلة لنساء رام الله قبل أجيال؟
كان إلى جانب "شجرة الحياة" شعر جميل لمحمود درويش من قصيدة "الهدهد":
فالكون أصغر من جناح فراشة
في ساحة القلب الكبير
في حبة القمح التقينا
وافترقنا في الرغيف وفي المسير
هل نحن ما كنّا؟
على آذارنا شجر
وفي أسفارنا قمر جميل
ولنا حياة في حياة الآخرين هناك.