كان الصّبح يصبغُ ساحةَ الأُفقِ في صباحٍ ربيعيٍّ لطيف، روائح الكعكِ كانتْ تفوحُ من أزقّةِ المدينة المُرابطة مراكبها على حدودِها منذ ليلة البارحة، شيء في نفسِه الرّتيبة تحرَّكَ كالتماعةٍ سحريةٍ أضاءتْ له منعطفاتٍ لطالَما خاب في حلّ دلالاتِ حيرتِها، فما الذي نبّه الرّاقدُ على حافّة المجهول؟
مزيجٌ من لونِ الأفقِ ورائحة الكعكِ ونسماتِ الصّباح، فإذا به بدأ بقراءة سفرَ الماضي بسهولةٍ واتضاح، كان يرى ذاته يزاحمُ قطعانَ الغنمِ المطمئنة إلى مساكنِها، تمعّن بعضًا من قطعِ الفواكه التي رماها الفلاحون لعفنٍ أو لعلّةٍ فيها، وكان يعودُ بها إلى والدتِه لتُطعم بها قطيعًا مِن صغارٍ ذرفتْهم أحشاؤها لإبقاءِ ذلك البعلِ الفارّ في رعايتِها ما استطاعتْ إليه سبيلاً، كان قد هاجَ مرة وتزوَّج، لكنّ الأخرى عزفتْ نفسها عنه لسيّئاته، كما هو في نظرِ الأولى، لكنّه كانَ مخطئاً، فآبَ على كرهٍ لأبنائه، آبَ وكأنّه لمْ يؤب، رجعَ ليعيشَ لذاتِه فقط، أعرضَ عن موقعِه لابنه الأكبر، وظلّ بينهم كولدٍ مُرفّهٍ يأمُر فيستجابُ له، من قالَ بأننا لا ننجبُ والدينا؟
ذلك الكلام الذي ما انفكتْ والدته تُكرّره أمام البعيد والقريب، وكانتْ وتُعيده على مسامعِ بعلِها وأبنائِها كلما جاءَ لها بما تأكلُه هي وأنفارها، أو كلما ساعدَ في حلّ أزمةٍ أو حلّ مشكلة تقبّلُ وجنته لثمةً، وتقول:أنتَ والدنا الذي ليس لنا غيره بعد ربّنا سبحانه وتعالى، ولتهلك الكلمات العذبة من فاهِ والدته، الذي كان يَخترق الشّدائد ويقطعُ الجلمود، فمرة كان يَجمعُ الفواكه ويَبيعُها ليَشتري لوازم المنزل، ومرة كان يَبتاع بعض السّجائر لبَيعها للمُدمنين الكُسالى على أرصفة الطرقات، لقد مرّ عملُه بنجاحٍ، ولمْ يكن قد بلغ الخامسة عشرة، وأصبحَ لديه دكّانٌ لبَيعِ الفواكه، وعادَ لمدرستِه بعد انقطاعٍ، وظنَّ أنَّ الحالَ قد استقامَ ولمْ يدر بما يخبئه الغدّ.
نمّقت الحياة لوالدته حالَ أولئك الرّاجعين منْ أقطارٍ مجاورةٍ بما يسرُّ العَين، نظرتْ إلى ما لديهم وأرادته بشدّة، ونقلتْ له إرادتها في رحيلِه، وتمنَّت عليه تلبيتها، وهو غير مُكترث وجاحد لحالها.
وذات يوم قال لها والدتي عندكِ الكثير من الأولاد غيري، أما أنا فليس لي غيركِ، لا تُبعديني فردت عليه: الفقرُ يا بُنيّ نهشَ أحشاءنا وأرواحنا، فهلا رأفتنا بخيرٍ يسقينا، فردّ عليها بحقّ لمْ أكمل دراستي الابتدائية بعد، فدنا منها بهدوءٍ وهمسَ: والدتي، لا أريدُ مفارقتكِ، فكيف تريدين؟ الاغترابُ مشكلةٌ تلتهمُ العُمرَ، فردّتْ عليه يا بُنيّ فُصلتَ عن الرّضاعةِ قبل الأوان، كبرتَ واعتمدتَ على نفسكِ مبكرا، فما كان منه إلا أن تركَ منزلَه، ودموعُه كانتْ تزاحمُ خطواته، وألمٌ كبير كانَ يملأ الفراغَ في روحِه مع كل مشيةٍ أبعدته عنْ أحبَّتِه وأبعدته عنْ بيتِه، ومِن بعيدٍ بدا له المرسى مكفهراً، وبدا له المركبُ اللاصق في المياهِ كغولٍ يزدردُ ولا يأوي، يقتلُ ولا يُحيي، يأخذ ولا يعطي، أخذ نفَسًا كأنما يودِّع به كلِّ الأفئدة التي تخلّتْ عنه.. مسحَ العبَرات العالقة على خدّيه الناشفين، صعدَ مصطبةَ المرسى، قعدَ حزينا تحت آلاتٍ قديمة متروكة، وما هي إلا لحظات حتى سقطتْ عليه، وكانت تشملُ شاكوشاً كبيرا سقطَ على رأسِه لتفتّت جُمجمته، التي بها ذكرياته.