لا يخطر لعاقل يتابع شؤون قضية فلسطين، أن يقلل من شأن تأثيرات الوضع الدولي الذي كان منذ البدايات الأولى لهذه القضية يلعب دوراً مركزياً في مجمل تطوراتها. هي قضية دولية بامتياز، ومع ذلك لا يمنع ما نقوله من الانتباه أيضاً الى ما لا يجوز إغفاله، أي الحالة الفلسطينية أو ما ندعوه عادةً بالظروف الذاتية.
من الواضح أن الحالة الفلسطينية الذاتية ليست على ما يرام، بل هي أكثر من ذلك تعيش أسوأ حالاتها، وتعاني جملة من الأمراض التي أصابت جسدها كله بالوهن، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأهلية المؤسسات والأجهزة وقدرتها على صياغة حركة سياسية في مستوى التحديات الكبرى التي يفرضها هدف طرد الاحتلال، الذي يرفعه الفلسطينيون ويعتبرونه هدفهم المركزي. ما تعيشه الحالة السياسية الفلسطينية من ترهل وخراب بنيوي، بات يضغط على فاعلية الأداء كله ويجعله عاجزاً عن تقديم فعل مؤثر، خصوصاً في الحالة الدولية التي توافقنا جميعاً على أنها تمتلك تأثيرات حاسمة على مجمل القضية ومصيرها ومصير أهلها. رأينا ذلك منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ثم في أعقابها مباشرة حين مارست الإمبراطورية البريطانية ضغوطاً سياسية هائلة على الدول العربية الضعيفة والناشئة لتوّها آنذاك، لجعل هدف إقامة الدولة اليهودية في فلسطين ممكن التحقق ودفعه بعد ذلك لأن يكون واقعاً يصعب تغييره.
وغني عن القول أن كل ذلك الفعل البريطاني الضاغط على فلسطين وقضيتها قد ورثته الولايات المتحدة الأميركية التي قدمت وتقدم لإسرائيل أشكال الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي كافة، والتي تمسك في الوقت ذاته بمفاتيح التسويات والحلول في صورة شاملة تقريباً.
هي معادلة قاسية على الفلسطينيين قيادة وشعباً، وهي تضعهم في صورة دائمة في مواجهة القوة العظمى وشبه الوحيدة في عالم اليوم، ما يجعل أهدافهم الوطنية والسياسية في حالة عسر دائم ويدفعهم الى البحث بنوع من العبث حيناً واليأس حيناً آخر، عن حلول ممكنة أخرى يكتشفون كل مرة أنها غير موجودة، وإن وجدت فهي أيضاً بيد الولايات المتحدة الأميركية. ربما لتلك الأسباب بالذات، نجد دوماً من يضع كل أوراق الحل بيد أميركا وينشغل بكلية حركته الى ما يعتقده نشاطاً لدفع أميركا الى أخذ حقوق الفلسطينيين واستحقاقات استقلالهم وحريتهم من الاحتلال في اعتبارها، وهو ما لم يتحقق حتى الآن ولو لمرة واحدة. المعضلة هنا، أن من ينشغلون بإقناع الولايات المتحدة لا يريدون الانتباه الى حقيقة ساطعة، وهي أن الواقع العربي في مجمله هو ما يمكنه أن يدفع الولايات المتحدة الى انتهاج سياسات مختلفة تقوم في أساسها على تحقيق تسوية عادلة حقاً، وتحفظ للفلسطينيين حقوقهم الوطنية وبالذات حقهم في العودة كما في تأسيس دولتهم المستقلة والمعترف بها.
نقول الواقع العربي ونحن نعرف أنه يعيش اليوم بؤساً أشد من بؤس الحالة الفلسطينية التي يتشارك معها في الخراب وشيوع اليأس ويقاسمها أهوالها وويلاتها.
هي بمعنى ما، حالة لا يشجع بؤسها على أية دعوة الى تحقيق تسوية ولو بالحدود الدنيا للعدل، وهي لذلك تدعونا جميعاً الى الكف عن وهم تلك الحلول والسعي الى استنهاض الواقع الفلسطيني والعربي كي يكون قادراً على الحفاظ على الذات في انتظار تغيرات ما يمكن أن تبدد ولو قليلاً ما في حياتنا من خراب وترهّل. نحن في سياق كهذا، مطالبون باستعادة دور المؤسسات، كما أننا مطالبون بالعمل في صورة جدية على استنهاض المواطنين من خلال أداء سياسي أكثر إيجابية، ومطالبون أكثر من هذا وذاك باستعادة علاقة حقيقية بين القيادة الفلسطينية وشعبها في فلسطين وخارجها.
عن الحياة اللندنية