ودلفت إلى الغرفة، غرفة متقشفة وباردة، في منتصفها طاولة مستطيلة، كنت غريبة عن مقاعدها، مرتبكة، وأتحاشى نظرات المجتمعين حول الطاولة في اجتماع يوشك أن يبدأ. أختار لنفسي مقعداً منزوياً، أكون ولا أكون في ذات الوقت.
أستنشق الغيوم المنبعثة من السجائر، تدريجياً أفهم سبب وجودي بين الوجوه الغريبة، أهضم وظيفتي التي تأتي على وجبات، رئيسة وثانوية، متلاحقة. بين فينة وأخرى، أسترق النظر على من حولي، البعض مهم اعتقد أني رأيت صورهم على موقع إلكتروني ما، والبعض الآخر يشبه بعض الوجوه التي مررت بها في أماكن مختلفة، أثناء خيارات واضحة ومغامرات العمر، هجرة قسرية ونزوح اختياري وضياع أفق، ذاكرة الأعمال الرئيسة والإضافية.
لا أحد يلتفت لي أو يرغب في الاستماع لوجهة نظري، بينما الأوراق تدور وتتجمع أمامي، كأنها تُحال على أكتافي لحملها من اجتماع متعدد الوجوه، يرتبون كل شيء بينما مطلوب مني كما يتبين، تنفيذ أشيائهم.
بدأت أسعل بسبب دخان السجائر والاضطراب والتوتر، قلت في نفسي: «سعالي إعلان عن حضوري وسط ضجيجهم». الرجل الخمسيني الذي يبدو أنه يترأس الاجتماع، يقرر ويؤكد ويقيّم طيلة الوقت بما يوحي بأهميته، إنه المسؤول عن الطاولة وتفاصيلها بما فيها حضوري الذي لا أعرف سرّ ملابساته.
تولّد انطباع ما عن الاجتماع دون تفسير، إنه اجتماع مهم وحزين، فالرجل الخمسيني النحيل يركِّز اهتمامنا على حفل تأبين الرجل الذي يصدف أن جميعنا يعرفه، دون أن تعني معرفتنا به أن نعرف بعضنا بعضاً. الرجل المسؤول يتحدث بجسده أغلب الأوقات، إيماءات وحركات مدروسة بدا أنها مقنعة.
تحدث الرجل موجهاً خطابه البليغ نحوي، موضحاً أكثر أهداف الاجتماع ووظيفتي في حفل تأبين الرجل الذي يبدو أنه مات، تكريم أو تأبين لست متأكدة من طبيعة المصطلحات التي يعبر عنها بأصابعه، لكن الذي التقطته من مداخلته الطويلة هو أن الرجل الذي مات نعرفه ويهمنا جميعاً.
أتردد بعضَ الوقت، أغير مكاني قرب قلبي المتشكك من أمر وجودي بينهم، أدقق في وجوههم سعيدة بجهلي بهم.. أحاول إظهار تماسكي لدى تحديد مهمتي التي تتلخص في كتابة الخطاب، خطاب بلغة الجسد، الرقص.
بينما الغرفة تغرق في الثرثرة وضباب السجائر، إيماءة بسيطة تسمح لي بالحديث. أستفيض في شرح تفاصيل وفواصل الخطاب الذي ألقوه على عاتق جسدي. قلت إني أجيد الرقص على رؤوس أصابعي، سأظهر جمال القماش الأبيض الذي سألفه حولي في مأتم مرتب بعناية فائقة. سأدور حولكم وحول الرجل الميت في حلقات، مرّات ومرّات.
فجأة توقفت عن الكلام متسائلة: هل مات الرجل حقاً ومن الذي مات؟ كان العرق يتسلل من مسامي تاركاً البرودة تجري كما شاءت لها المنحنيات. استيقظت وكنت لا أزال أرتجف مرددة: من الرجل الذي مات وهل مات حقاً..؟ لم أتلق الردود لأني استيقظت قبل أن أستكمل المعلومات التي أريد.
في كل ليلة، أحاول الرجوع لاستكمال الحلم، أستحضر مقاعد غرفة الاجتماع والرجل الميت وبقية الشخصيات وتفاصيل الرقص، دون جدوى.
وفي اليقظة، أستمر في البحث عن طاولة هادئة استكمل فيها أحلام مخصصة لليقظة، أضع عليها أوراقي البيضاء أستكمل فيها جزءاً من أحلامي المجنونة، بينما تحدجني نظرات الرجل المسؤول.