يكثر، في مثل هذه الأوقات من نهايات الأعوام، استرجاع الماضي والبحث في تفاصيل العام الذي انقضى عن بعض الحوادث والمفاصل السياسية التي كان لها أثر كبير في رسم معالم العام المنصرم، كما يكثر البحث عن المستقبل بوصف اللحظات القادمة وليدة اللحظات التي انقضت، وهي ابنة شرعية لما مهدت له الحوادث التي ذهبت. وعتبات الأعوام في العادة مثل كل المداخل والمخارج في الزمان والمكان فرصة للتأمل في المراحل المختلفة والنظر إلى الماضي في محاولة لفهمه وتفكيك بعض ما انغلق من طلاسمه، والتعمق في الأفق الأبيض للمستقبل لعل ثمة شيئاً يمكن تبصره في غياهب الغامض منه يصلح لأن يكون دليلاً للغد.
وفي الحالة الفلسطينية، ربما يكون الأمر أكثر إلحاحاً في ظل أزمة وطنية ضربت وجود شعب على أرضه التاريخية وجاءت عنوة بمهاجرين من بلدان مختلفة ليجعلوا من أنفسهم شعباً بدلاً منه، ويطردوه من أرضه ويهدموا مدنه وقراه ويقيموا مكانها سيرتهم المزعومة في التاريخ، في هذه الحال فإن الأزمة الوطنية الفلسطينية التي يتجاوز عمرها المائة عام الآن تجعل محاولة فهم الماضي ليست أكثر من استرجاعات ذهنية وتمارين في التذكر، في ظل عدم تكشف المزيد من الحقائق التي تجعل الدفع باتجاه المستقبل أمراً يسيراً، كما أن البحث عن هذا المستقبل يبدو مهمة أكثر عسراً مع عدم وجود تغيرات جوهرية في موازين القوى، وفي ظل تواصل الدولة الإحلالية التي جاءت على أنقاض الشعب الفلسطيني الدفع باتجاه تعزيز قوتها وتفكيك بنية المكان الفلسطيني.
المأمول عادة ليس أقل سقفاً من الممكن، لكنه في الحالة الفلسطينية قد يكون كذلك. فأنت حين تتأمل شيئاً تتأمل شيئاً أكبر من حدود الاحتمال وتفاصيل الواقع الذي تعيشه، لكنك رغم ذلك تجازف بالاستفادة من "فرصة الشك" بأن ثمة شيء سيتغير. وعليه فإن الكثير من الآمال الوطنية، نظرياً، تقف في خانة الأحلام. لكنها في حالة الشعوب تصبح حقيقة يؤمن الجميع بقدريتها وحتميتها حتى وإن تعالت تفاصيل الواقع عنها وجعلت تحقيقها أمراً صعباً. وليست الحالة الفلسطينية استثناءً في ذلك، بل هي القاعدة بحد ذاتها.
لكن ما الذي يميز السياق الفلسطيني في هذا السرد؟ الكثير، وقد تكون كلمة الكثير قليلة، لكنها كافية للإشارة للخصوصية العالية التي يتمتع بها السياق الفلسطيني. فالمأمول كان في لحظات كثيرة أقل من سقف التوقعات. صحيح أن الحلم الفلسطيني لم يمسه أحد. بمعني ظل الفلسطيني يحلم بأرض الآباء والأجداد كاملة، بل إن السرد الوطني طور من الرواية الفلسطينية حول الأرض والعلاقة بها، وتم تكثيف السرديات والمرويات والأهازيج والأغاني حول العلاقة بالأرض وبالمكان وتفاصيله، بل إن الذاكرة المحلية لكل قرية ومدينة برعت في خلق أساطير خاصة حول تلك العلاقات التي كانت موجودة بين سكانها وبينهم وبين المكان وتفاصيله. لكن على المستوى السياسي فإن الفعل السياسي الفلسطيني، مدفوعاً بالكثير من العوامل والضوابط، وجد نفسه أسيراً للخضوع لعمليات تحول وتكييف جعلت خليجاً مهولاً في العمق بين عالم الحلم وعالم المأمول سياسياً. صحيح، وهذا يحسب للفلسطينيين، أن كل ذلك لم يؤثر قيد أنملة على نجاعة الحلم واعتماله في اللاوعي وفي القصص والحكايات الشعبية، كما في المرويات عن المستقبل والمتخيل منه، لكنه أيضاً أوجد عالماً من التناقض والتفكك ساهما بطريقة أو بأخرى في تراجع دور الحلم في الفعل السياسي كما في الفعل المعاش يومياً. وأخطر ما في السياسة حين تتوقف عن الحلم. وحين يتوقف السياسي عن أن يكون حالماً يفقد مقدرته على صوغ الوعي الشعبي العام. أظن أن الكثير من السياسة الفلسطينية خسرت مقدرتها على الحلم، وصارت تفاصيل الواقع أكثر إلحاحاً من حاجة العقل للحلم. والشعوب تقتات على الحلم، وتعيش المستقبل لأنها تبحث عن فرصة ومكان لهذا الحلم. تبحث عن مكان أو عش ينام فيه حلمها، حيث تهدهده ليغفو بسبات وأمان، وحيث يمكن له أن ينمو ويترعرع.
ما أرمي إليه هنا أن السياق الفلسطيني بكل مكوناته بحاجة لمراجعات عميقة تستطيع أن تساهم بحقنه بالمزيد من الأحلام، دون أن يفقد صلته بالواقع. لأن السياسي بالقدر الذي يحتاج فيه أن يحلم هو بحاجة لأن يشعر دائماً بموضع قدميه على التراب حتي يستطيع أن يواصل. وهي مراجعات تبحث عن العلاقة الشائكة بين الماضي والمستقبل، وتعمل على إخراج الحالة الوطنية من السكون الذي تعيش فيه. إنه السكون الذي يجعل البحث عن المستقبل مهمة عسيرة وغير جديرة بالمحاولة في مرات كثيرة. ويكفي مراجعة استطلاعات الرأي الخاصة بالشباب للوقوف على حالة اليأس الذي تنتاب الشريحة الأوسع في المجتمع الفلسطيني حين يتعلق الأمر بالغد.
إنه الغد الذي لا يتذكره أحد، لأنه غير موجود في الممارسة اليومية الباحثة عنه. إن تفاصيل الواقع تجعل السير قدماً مهمة عسيرة. كيف يمكن لنا أن نتذكر، ونحن نودع عاماً آخر ونستقبل عاماً آخر، أننا عجزنا عن تحقيق الوحدة الوطنية بعد قرابة عقد من الزمن، وأن أزمة مثل الكهرباء التي تصيب قطاع غزة باتت من المسلمات في حياتنا اليومية، وأن الشعب الفلسطيني المشتت في العالم بات حاله أكثر بؤساً، خاصة بعد المجازر التي تعرض لها في اليرموك والحال ليس أقل سوءاً في لبنان وغيرها من أماكن الشتات. وأن الأحلام الفلسطينية باتت أكثر بعداً.
الكثير من الأزمات والقضايا والتي عند الوقوف عليها، يمتنع المرء عن التفكير في المستقبل على عتبات العام الجديد، لأنه لا يجد نفعاً في تأمل الماضي، لأنه الماضي أكثر سوءاً ربما من الماضي الذي سبقه، أو لأن ممارسة النظر في الظلام لا تجلب إلا المزيد من الظلام.