حسن مريم " الشتاء في الحنجرة، وأمي في زفرة الوداع، وعيناك الفاتحة والنّاس "

الشتاء في الحنجرة، وأمي في زفرة الوداع، وعيناك الفاتحة والنّاس
حجم الخط

عِدْني يا أبي لو فتحتُ الباب أن أراك، أنا مذعور من التقدم خطوةً واحدة، ويُخيّل إليّ أن مجازفةً كهذه ستقتلني لو فشلْتُ، وأن حياتي كلها، كلّها ستهيل، وتتكوّم عند الباب إن خذلتني الأحلام.

 

الآه آه، والحياة قاربٌ مثقوب، والفرح الذي يذهب لا يرجع إلا جثةً، وأنت أبي وإنْ أنكرني الباب، وإن شوّهتني بنات الدّهر وكذبة الشّعر السخيفة.

 

ها أنا أمام بابك الأثمن، وجهاً لوجهٍ، ويتماً يواسي يتماً، بيننا متران خجولان، وحجارة تكحّلت وتزيّنت لموعدٍ محتمل، وبيننا نشيج مريم القديم، وحنينٌ محنيّ الظهر يصعد إلى عينيّ على درج الرّوح، وبيننا الله يا أبي، بيننا الله.

 

أشمّ صوتك يهبّ من خلف الباب، له رائحة المريمية، وخفّة الزمن، وها هي دموعك نبتت كالبابونج بين شقوق البلاط، دموعك التي طاحت يوم عاب الأولاد قميصك المبحوح، أيها البدويّ الخشن المسالم، والجسور البريء.

 

ما زلتُ أذكر حفاءك، تقْطَع الجبال على عجل كي تدرك الدرس، وأذكر خجلك وأنت تتفلّت من حضن أبيك إلى حضن الله، وأذكر حنانك تحمل الحطب عن أمك من الوادي البعيد على ظهرك الضعيف العنيد.

 

وحزنَك العريق، عبوسك الضحوك، مشيتك الموزونة، محبتك في عيون الجيران، غزلك الركيك لأمي، كأس الشاي تدور على أصابعك الثلاث، كرسيّك جانب الشباك، الكهف في صبيحة الجمعة، بسكويت الحيوانات، قبلتك لي حين أخرج قدم بنطالك من عنق الجورب، حكايتك المتكررة مع قائد الكتيبة، الجاسوس الصهيوني الذي أمسكت به، الفدائي الذي أجرته في حجرتك، الورد الذي قطفته لأمي تحت القصف، سهرك في برج شركة الإنتاج، صوتك الخافت" يا وابور قلي "، بكاؤك على أختك حين ماتت، حنانك حنانك حنانك حنانك ...

 

اذكر كل هذا يا أبي، ولا أتذكر مرةً أني حضنتك، لا أتذكر مرةً أني حضنتك.

 

أرجوك عِدني لو فتحتُ الباب أن أراك، قلبي على حافّة الصدر "قُلّةٌ" فارغة ستسقط، وروحي تسيل على خدّيّ من يتمٍ وحنين، وأيامي بعد موتك يتامى، يتامى جاؤوا معي وتحلّقوا من حولي، فافتح لنا، ما عرفناك إلا حنوناً، افتح لنا نرجوك، ولا تفتح الجرح أكثر يا أبي..!