ما بين ماضٍ أرَّقهُ وانتزع منه ملامح الفرح ولون الابتسامة ، وحاضِرٌ يتقاذَفَهُ كموج البحر الجالس على شاطئه ، تارة يرنو ببصره إلى الأفق ، يلاحق بنظراته النوارس المُحلِّقة في السَّماء راحلة صوب الغروب ، وتارة أخرى يغوص في أعماق نفسه في رحلةٍ مع الذَّات ، ” فأحياناً تكون الذَّات هي أجمل رُكن نلجأ إليه عند البحث عن أنفُسِنا ” ..
ورغم كل هذه اللحظات التي تعصف بأحمد ، إلا أنَّ النَّاظر إليه كالنَّاظر إلى صخرةٍ غَرَسَت نفسها في رمال الشاطئ يُداعبها الموج في دورات لا تتوقَّف ، كَعِشقٍ بَدَأ مع لحظة انغراسِها في أحضانِ تلك الرِّمال ، ولا يُعلم له نهاية ..
كان يجلس في صمت رغم أنه كان يعيش في داخله رحلتين ، رحلة أخذته فيها مُخيِّلته صوب الأفق عالياً في السَّماء ، وأخرى إلى أعماق نفسه بحثاً عن الأمنيات ..
وفي كلا الرحلتين كان قد انخَلَع عن الواقع إلى عالم آخر ليس كباقي العوالم ، ولا يعيشه إلا قليل من بني البشر ..
وما بين دمعةٍ حارقة وابتسامة ، كان هناك نبضٌ وحياة ، كانت تصنع منه معالم إنسان تعوَّد على لطمات الحياة وقسوتها ، ويحلم بيوم مِلؤُه الأمل وتُزيِّنه الابتسامات ..
ولكن !! هيهات أن تتركه هواجس الماضي التي تُطارد لحظاته في كل مكان ، فهي ليست وليدة يوم وانقضى ، بل رحلة عُمْرٍ طويل عاشه منذ أن وُلِد ، فكيف له أن يقوى على النِّسيان ، وأصعب هواجسه تلك الساكنة في حنايا القلب يَعشَقُها ، فهي ليست مُجرَّد حُب يعيش إحساس نبضه ويتنفَّس منه ليُواصل الحياة !!
بل هي عالمٌ وحياة ، علَّمته كيف يبتسم رغم قسوة الحياة ومُرِّ الألم ، وجعلت منه كائناً آخر صلداً لا ينحني في زمنٍ تنحني فيه الجِباه ، بل وأكثر من ذلك ، علَّمته كيف يتحوَّل من لحظة الألم مصطحباً لَذَّة شُعُورِه بِنَبضِ رُوحها داخله إلى لحظة يُزهِرُ معها العُمْر ، حبيبةٌ ليست كالأُخريات ، بل تُنافس كل الفتيات ، في جمالها ، وبهائِها ، وسِحرِها ، ونضارةِ طالِعها ، وحُمرةِ وجنَتَيْها ، وشعرِها المائِج المُنسدِل على كتِفَيها ، وعيناها السَّوداوَين ، ، عرف معها ” أنَّ السعادة تبدأ حدُودُها عند ابتسامةٍ تلمعُ بها العُيُون ” ..
غريبٌ هذا الحُب ، كيف يُحوِّل الانسان من كائن ضعيف إلى آخر مُختلف ، لا يقوى عليه بشر ، ولا نازلات الحياة ونوائِبها ، فلو كان قَدَرُ الانسان أن يُخلَّد لَعَزَف مع حبيبَتِهِ لَحْنَ الخُلود ..
وكيفَ تهدأ بداخله العواصف ؟؟!!! وحبيبتُهُ أسيرة عند أَلَدِّ أعداء البشرية والحياة ، بل لا يُصنَّفُون مع البشر ، وقد جرَّب نازيَّتهم البغيضة في معترك الحياة ، دفاعاً عن حبيبته وحُبِّه الذي يسكنه ..
لقد تعرَّف عليها منذ نُعومة أظفاره ، وبدأ بداخله يكبر الحُب ، ومع كل زيادة في العمر يزداد بها عشقه لها ، وتتفتَّح معه مداركه ، وتَأْتَلِف معها مشاعره ، ويتلوَّن بِلَونِها ، وجاءت لحظة الحقيقة ، ليكتشف أنَّ حبيبته تخونه مع أعداد كبيرة ومن مختلف الاعمار ، ولا يقوى على منازعتهم وتقاسمهم لهذا الحُب ، فجمالها وأنوثتها كالزَّهرة تجتذب بِشذا عِطرِها أسراب النَّحل لتتنازع رحيقها ، فكيف له أن يمنعهم وقد أدرك أنَّها محبوبة الجميع ..
وهنا فقط !! قرَّر أن يتقاسم معهم هذا الحُب ويعيش لحظاته كما يعيشوه ، ويعاني معهم كل المعاناة ، وتَجهَّز كما تَجهَّز غيره لِيُجهِّز مَهْرِها ، وسعى في كل مكان وأفنى كل ما ادَّخر في سبيل هذا المَهْر ، ومع ذلك أدرك أنَّ مَهْرها غالٍ ويحتاج عُمْرٍ فوق عُمرِهِ وأعمارُ لِيَجمع ما يجمع ، ومع كل يومٍ يَمُرُّ يزداد أعداد المنافسين له على حُبِّ محبوبته وتزداد المنافسة ليكون هو الفائز بها ، رغم علمه المُسبق أنَّها حقٌ للجميع ، وانَّها هي بِحُبِّها من وَحَّدَتهُم حولها لِيَتَشارَكُوا القضيَّة فكل مَهْرٍ لا يفي تلك العروس فلسطين ، وإن سعى أهل الأرض سعيهم لِيَمتلكوا مُتَفَرِّدِين قلبها ..
وبدأت رحلة حُبٍّ من نوعٍ آخر ، تتملَّك فُؤاده ، وتتنازعه مشاعره ليل نهار ليرسم على شفتيها أجمل ابتسامة ..
إِنَّها الأقدار ، شاءت أن يكون هذا الفارس دون غيره من يَتَنكَّب الطَّريق صغيراً ، ويُواصل المسير شابَّاً ، وارتضى بالقضاء ، ويدفعه حُبُه لِيستمر في العَطَاء ، وتوجَّه من فَورِه إلى قادة الثورة شامخاً ، يحذوه الأمل بِغدٍ جميل ، وقال لهم : أنا لها ، أنا الفارس وعن طريقي لن أعود ، ولن أحيد ، حتى ولو سرت فيها وحيد ، فقالوا له : ألم تَتَعَجَّل القَرار ؟؟ فهذا طريقٌ يهابه الكبار ، فقال : بل هو طريقٌ يعشقه الاحرار ، ألستم الثُوَّار ؟؟ فما كان من القائد إلا أن قال له : أقبل أيُّها الشاب ، ما حاجتك ؟؟ قال : أنا الفارس أحمد الثَّائر ابن الأحرار ، مِقدامٌ في ساحات الوَغَى
ولستُ بِفرَّار ، وأسعى لِمَهرِ عروسي فلا تحرموني وقد اتَّخَذت القرار ، فنظر إليه القائد نظرة إعجاب وإكبار وأجابه : هنيئاً لها تلك المحبوبة بالفارس المِغوار ، فصاح مهلِّلين الثُّوار : بل مرحباَ به بيننا لِيخوض معنا معارك التَّحرير لأرض الدِّيار ، وهكذا بدأ الطَّريق ينطوي تحت أقدام عذا الفارس وتتزيَّن لهُ بأجمل الأزهار ..
أيَّامٌ انقضت في ساحات التدريب لإعداد الرِّجال ، ازداد فيها شراسة وقُوَّة ، وأصبح من المُتميِّزين ومُؤهلاُ لأن يواجه أعداء البشرية ، وتمرُّ الأيام سِراعاً ويأتيه أجمل وأغلى قرار ، فعليه وقع الاختيار ..
تجهَّز الرِّجال الثُّوار وحملوا ما يلزم من زاد وعتاد ، فقد ألِفوا العمل ومارسوه ، ولكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها ، فالخطَّة أخطر ، وتحتاج لمميزات وصفات خاصة ، وشاءت الاقدار أن يكون من بينهم من هو أهلٌ لها ، وكان ما كان ، ودارت رحى المعركة وزمجرت الأُسود وحَمِيَ الوَطِيس ، وتَنَاثَرت في صُفُوف الأعداء أشلاء ، وعاد الرِّجال مُكلَّلين بالنَّصر ، ولم يُدرِكوا ما فات ، وأنَّ هناك فارسٌ لم يعود ، إنَّه أحمد ، جُنَّ جُنون قائدهم وصَرَخَ فيهِم : كيف تركتُمُوه خلفكم ؟!! ولكن لا جواب ، وخيَّم الصَّمتُ على المكان ..
الصَّدمة كانت أكبر مما تخيَّلوا ، ومعذورين كانوا في نِسيانهم ، فقد كان أوَّل نزالٍ له معهم ، ولم يتعوَّدوا وجوده بينهم ، والمعركة كبيرة ألهتهم عن تذكُّره ، هذا الجَّواب كان مخزون صدورهم ، ولكنَّهم لم يستطيعوا النُطق به ، أمَّا أحمد فلم يتغيَّب إلا لما هو أعظم ، هم عادوا من كَرِّهِم وهُوَ أقسم ألا يعود إلا بالنَّصر أو الشهادة ، لكنَّه تعجَّلها ولم يَنُلها ، فقد قاده اندفاعه وحُبُّه لفلسطين إلى أن يأبَى الرُّجوع إلا أن يَقتُل من كِلاب يهود ما يكون مَهراً لعروسه أو يزيد ، وعاث في المستوطنة الصهيونية بحثاً عن صيدٍ آخر ، فلم يجد ، فقرَّر الانتظار مُختبئاً في أحد البيوت ، وما هي إلا لحظات وحضرت النَّجَدَات الصهيونية ، وأخذت تحومُ في طُرُقات المستوطنة آليَّاتهم ، وهنا انطلق الأسد الهصور مُباغتاً لهم ، وقتل منهم وأصاب العديد ، بعزيمةٍ من حديد ، حتى آخر طلقة في البندقيَّة ، وكان قد أُصيب ، وبدأ ينزف وقُواهُ تخُور ، وغاب عن وعيِه ، لتبدأ رحلة العذاب ..
أيَّام وأفاق من غيبوبته ، ليجد نفسه في مستشفى عسكريّ ومُكبَّل في السَّرير وحوله حُرَّاس من زنادقة اليهود ، وبعدها بدأ مشوار الألم ، وأدخلوه أَقبِيَة التَّحقيق ، وأذاقوه ألوان العذاب ، وهو إلى الله منيب ، وما كان منه إلا المزيد من الصَّبر في وجه السَّجان ، وفشلت معه كل أنواع التَّحقيق ، وجوابه لهم أنا القائد والجندي والمُخطِّط ، وأعاد أمام القاضي نفس الجواب ، فَجُنَّ جُنون القاضي ، وأمر بحبسه ثلاث مُؤبَّدات ، فابتسم أحمد وصَرَخَ في وجه القاضي : ألديك مزيد ، فالسِّجن رحلة نقاء ، وخلوَة مع النفس ، ومصانع للرِّجال يا ابن اليهوديَّة ..
ومرَّت السُّنون تِبَاعاً ، والأيَّام واللحظات تَمُرُّ بِجلوها ومُرِّها ويحذوه رغم ذلك بصيصُ أمل ، وصبرٌ لا يعرف معناه إلا المؤمنين الصَّادقين ..
حقَّاً لا ينقطع الأمل مع الصَّبر والدُّعاء ، ولم يُخَيِّب الله الرَّجاء ، فكانت صفقة وفاء الأحرار ، وكان من بين صُفوف المُحرَّرين ، فارس زمانِه أحمد ، ليخرج إلى الحياة من جديد ، وقد أمضى في الأسر عشرون عاماً ، وكان لحظة اعتقاله ابن ثمانية عشر عاماً ، وقد تغيَّر خلالها الكثير ..
استُشهِدَ من استُشهِد ، واعتُقِلَ من اعتُقِل ، وماتَ من مات ، ولم يتبقَّى من رِفاقه أحد ..
يَسعَدُ بالتَّحرير الأحرار ، لكنَّهُ فقد الابتسامة ، وفقد كل معاني الحياة ، فقد أصبح وحيداً وتغيَّرت من حوله الحياة ..
ذكرياته عصفت به ، لِتَمرَّ أمامه كل لحظة عاشها ، وفي جلسته صامتاً وعن الواقع منقطع ، نَسِيَ أنَّ الأمل في وجه الله لم ينقطع ، ورسمت له الأقدار ما لم يجول بخاطره يوماً ، فقد همَّ أن يغادر مكانه ليعود أدراجه إلى بيته ، ولكن !! على الشاطِئ مَا مَنَعهُ إلا أن يَتَسمَّر مكانه ، فقد رأى ملاكاً يمشي على الأرض ، وكيف لمن حجبته الأيَّام عن ألوان الجمال وعاش سنوات من الحرمان ، ولم تتحرَّك له مشاعر ، إلا لفلسطين ، ولا حبيبة تسكن قلبه سواها ، ولكن !! هذه تختلف ..
لقد عبثت بِوُجدَانِهِ المشاعر وتَصَارَعَت ، وَأَلَحَّ عليه السؤال : أَتُنافِس هذه تِلك في حُبِّي لها ؟؟
ولم يُدرِك أنَّها مُكمِّلةٌ لهُ في حُبِّ الأُولى ويَزِيد ..
توالت الأيام ورَأَى تلك الفتاة الملاك مرَّةً أُخرى ، يتلوها مرَّة ومرَّات ، وبدأ قلبه يتعلَّق بها ويخفق حُبَّاً وبِها ينبض ، وامتلكت من قلبه الفُؤاد ، فبدأ يسعى ويُخطِّط كيف ومن أين يبدأ ، وهل تَقْبَل به رغم الظُّروف القاسية التي عاشها في الأسْرِ وألوان العذاب التي ذاقها ..
فقد تم اعتقاله بعد أن أَنهَى الثانوية العامة ، وفي الأَسْرِ أكمل تعليمه الجَّامعيّ ، وخرج مُحرَّراً ، وبدأ العمل كضابط شرطة ، ورجلٌ ليس كمثله أحد ، ولكنَّه يعيش حالة خَوْفٍ وتَرَقُّب ، بداخله هاجس أنه مختلف عن الآخرين ، ويخشى أن يفقد محبوبته ، أو عنه تغيب ..
كانت ملاكه صفاء تعلم بما يدور بداخله ، فقد قرأت نظراته لها وما تُخفي عيناه من إعجاب وحُب ، ولكنَّها تنتظر منه الحراك ، فَعِفَّتها تمنعها من أن تبوح بما في قلبها وتنتظر ..
وما هي إلا أيَّام انقضت ، استجمع خلالها أحمد قُواه ، وذهب إلى قائد الشرطة وأخبره بقصته ، فضحك القائد وقال له يا أخي لا تقلق وأَبْشِر ، فهذه الفتاة ابنة الأحرار ، وأهلها ثُوَّار ، وانت على شاكلتهم وَلَوْنُك من لَوْنِ فلسطين ، ولن يرفضوك ، فأنت صنعت مجداً تُباهي به كل بيتٍ في الدِّيار ..
حقَّاً إنها الحياة .. الفارس الحُرُّ خرج من السِّجن طليقاً وقد أُسِرَ رغماً عنه ، ولم يعي أنَّ هناك سِجنٌ آخر ينتظره ، ومحكومٌ عليه بالسِّجن مدى الحياة ، سجنتهُ صفاء ، تلك الملاك التي أحب ، ولم يَقْوَى على الفِرَار أو المُقاومة ، وسلَّم نفسه طائعاً مُحِبَّاً هذه المرَّة ، فهذه الحبيبة تُناصِفُه وتُنافِسه وتُكَمِّله في حُبِّ الأُولى ، بل وتدفع به إلى الوِصال ، وكُلَّما أَنْسَتهُ الحياة حُبَّهُ الأوَّل ، ذكَّرته صفاء بكلماتٍ اعتادت أن تنثرها على مسامِعِه : ” وما بدَّلوا تبديلا ” فيثور الأسد بداخلهِ من جديد ، ويردُّ عليها بِدَورِه بكلماتٍ ممزوجة بالأمل ، وقلبُه مليءٌ باليقين ” من يصدُق الله لن ينلهُ أذى !! ومن رَجاهُ .. يكونُ حيثُ رَجَا ..
ومع كلِّ اشراقة فجرٍ جديد بات هذا الفارس لا يُبدِّل تبديلا وقلبه يخفق حُبَّاً لفلسطين محبوبته الأُولى وبِدَفعٍ من الثانية ، ويُؤَرِّقهُ مَرَارةِ أَسْرِها ، ولِسان حاله ، وجميلُ مقاله :
فلسطين يا جُرحي النَّازف !! لا زِلتُ أبحثُ عن وَطَنْ ..
لِيبدَأَ معها يومٌ جديد في رِحلَةِ التَّحرير .