«رأس السّنة»، «عيد الميلاد»: رمزان للتجدُّد يحتفي بهما البشر، على مستوى الكون، وفي تنويعات وتفريعاتٍ مختلفة.
يحتفي بهما كذلك الفنّانون، على نحوٍ خاصّ، والشعراء على نحوٍ أخصّ.
يذكّرني وضعنا العربيّ، في هذا الصّدَد، بشاعرين كبيرين. يقول الأول:
«قَوْمِيَ استَولوا على الدّهر فَتىً»،
ويقول الثّاني :
«أتى الزّمانَ بنوه في شبيبتهِ
فسرَّهُم وأتيناه على الهَرَمِ».
هكذا يصفُ كلٌّ منهما علاقةَ الإنسان بالزّمَن والتّاريخ، ومستوى هذه العلاقة، وظروفها، كأنّهما «يقرآن» الوجودَ ذاتَه:
«فتى» في القراءة الأولى، و «هَرِماً» في القراءة الثانية.
ماذا يمكن أن يقول شعراء «الحداثة العربيّة الإسلاميّة» في هاتين القراءتين؟ وهل عندهم «قراءة» ثالثة – «حديثة»؟
وما تكون ؟
– 2 –
كلّ شيءٍ في هذا العصر، عصر التّقنية والحروب، أو عصر التّقنية الحربية، يشير إلى أنّ الظاهرة الإنسانية التي عمرت سطحَ هذا الكوكب الأرضيّ المدهِش والتي حوّلَتْه إلى «ظاهرة حضاريّة» فذّة، مُعطِيةً للوجود الإنسانيّ معناه الخلاّق، الفريد، كلُّ شيءٍ يُشير إلى أنّها آخِذةٌ في التّآكل الداخليّ،
على مستوى الكينونة نفسها:
براكين اجتماعيّةٌ- اقتصاديّةٌ هنا، طوفاناتٌ وانقلاباتٌ جيوسياسيّة عسكريّةٌ هناك وهنالك، في فوضى كوكبيّة، وكلٌّ يلتهِم غيرَه.
إلى أين تذهب «جهَنّماتُ» هذا الكوكب العدنيّ؟
أعطِني سلامَك أيُّها الحبْر.
خُذ أيّها الورقُ بيديّ.
– 3 –
كلاّ، لن أعطيَ صوتي إلى اليسار لمجرّد كونه يساراً.
ولن أعطيَ صوتي إلى اليمين أو إلى الوسط بوصفهما يميناً أو وسَطاً، أو لمجرّد كونهما وسَطاً أو يميناً.
كان بعضُ أسلافِنا يقول:
يُعرَفُ الإنسانُ بالحَقّ، ولا يُعرَفُ الحقُّ بالإنسان.
هكذا سأعطي صَوتي إلى الحقّ أينما كان، وأينما رأيتُه.
– 4 –
«حَمداً للّه، فأنا مَيِّتٌ كلّيّاً»: كتَبَ مرّةً مالارميه إلى أحَد أصدقائه، تطبيقاً لمقولته الشّهيرة: «مَن يكتبْ يتحصّن»، أو مَن يكتب ينعزل عن العالم، داخِلَ العالَم. كأنّه ميّت.
– 5 –
«الابن ضدّ الأب»: عبارةٌ تفسِّر جانباً أساسيّاً من جوانب التقدُّم في العالَم الغربيّ، وفقاً لمفهوم «قتْلِ الأب»، بالمعنى الحضاريّ كما يقول معظمُ الدّارسين والمؤرِّخين. خصوصاً أولئك الذين يعدّون التّحليلَ النفسيّ عاملاً مهمّاً في فهم الإنسان والعالم.
لا وجودَ لمفهوم «قتل الأب» في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة:
فيها يثورُ الأبُ على الأبِ، وعلى الابن الذي لا يجسِّد «الأب». وفيها يثور الابنُ على الابنِ لكي يحلَّ محلَّه.
حربُنا الثقافيّةُ، نحن العرب المسلمين، هي حربُ «أبٍ» ضدَّ «أبٍ» آخر، وحربُ «ابنٍ» ضدّ «ابنٍ» آخر. وهي بذلك حربٌ لا نهايةَ لها، وإنْ «ضَمُرَت» حيناً، أو «مُوِّهَت» حيناً آخر. حربٌ لا يمكن أن تنتهي إلاّ بنهاية الثّقافة التي تقومُ عليها.
– 6 –
تعاني الديمقراطيّة في العالم «الديمقراطيّ» كلّه أزمة هويّة.
مع فوارق صغيرة أو كبيرة، أساسيّة أو ثانويّة بين شعبٍ وشعب.
تتمثّل هذه الفوارقُ في العالم الأوروبيّ، مثلاً، في أنّ كلّ فردٍ، في بعض بلدانه، يريد أن يكون رئيساً، وأنّ كلّ فردٍ في بعضها الآخر، يريد، على العكس، أن يكون مرؤوساً.
– 7 –
يرى بعضُ الباحثين في الغرب، بينهم أخيراً كارلو سترنجر Carlo Strenger، أنّ عدد المسلمين في الاتّحاد الأوروبي سيصبح في السنة 2035 ثمانية بالمئة من سكّانه. وهو يرى أنّ ذلك لا يشكِّل «تهديداً وجوديّاً للغرب»، أو تهديداً اقتصاديّاً أو تقنيّاً.
(مجلة لوبوان Le Point، السابع عشر من نوفمبر 2016). لكن آخرين يرون، مع ذلك، أنّ هناك فروقاً كبيرة على الصّعيد الثّقافيّ- الحضاريّ بين الغرب، إجمالاً، والمسلمين العرب، إجمالاً، تتوالد عنها مشكلات كثيرة، اجتماعيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة. منها، على سبيل المثل، هيمنة الذّكورة عند العرب.
فالغربُ يرى أنّ عدم المساواة بين الرجل والمرأة، على جميع الصُّعُد وفي جميع الميادين، إنّما هو مسألة قديمة غير عقلانيّة.
وربّما كانت الطّابع الغالب على الثّقافة الإسلاميّة العربيّة السّائدة. وربّما كانت أيضاً، في أساس انعدام الفكر النّقديّ في المجتمعات العربيّة، وغياب العقلانيّة، ومفهومات الحقوق الإنسانيّة الكونيّة. وهي المُنجَزات الكبرى التي يعتدّ بها الغرب.
وفي هذا الغياب ما يفسِّر افتقار الثّقافة العربيّة أو حتّى خلوّها من نقد المواقف اللاعقلانيّة اللاأخلاقيّة، واللاإنسانيّة، بالمعنى الفلسفي الجذريّ والشّامل، في المجتمعات العربيّة.
وهذا يعني أنّ خوف الغرب من المسلمين العرب ليس خوفاً من «الدين» بحدّ ذاته، وإنّما هو خوفٌ من التّبايُن الكبير بينه وبينهم في كلّ ما يتعلّق بما هو عقلانيّ أو أخلاقيّ وثقافيّ، على نحوٍ عامّ.
– 8 –
يرى الرّوائيّ الفرنسيّ ميشيل هويلبيك Houellebecq في رواياته، أنّ ثقافة العالم الغربيّ «منهارة ومُنحطّة، وباعثة على التقزُّز، وخالية كلّيّاً من العمق ومن الحيويّة».
ويعلِّق أحد النقّاد على الذين يرفضون هذا الرّأي قائلاً
«لا بصيرةَ لأولئك الذين يرفضونه».
في كلّ حال، انتصرَت في الغرب الدّيموقراطيّة الليبراليّة مدعومةً بسيادة «اقتصاد السّوق»، وفقاً لما يقول فوكوياما.
وهو انتصارٌ جعل المفكّر الفرنسيّ باسكال بروكنر Pascal Bruckner يتّهم الغرب بالعجز الكامل عن القيام بكلّ ما يتعلّق «بالدّفاع عن قيَمه». ودفعت المفكّر بنجامين بارلرBenjamin Barler إلى أن يصف المجتمع الأميركي بأنّه «مُطَفْلَن»، أو بلغتنا الدّارجة «صبيانيّ».
وهذا مما يجعل فوكوياما نفسه ينتقد «المؤسّسات الغربيّة»، لانحطاطها وعجزها المتزايد عن معالجة المشكلات الاجتماعيّة الكبرى، كالتّفاوُت الاقتصاديّ والتلوُّث وانحطاط الخطاب السّياسيّ.
– 9 –
كيف يهرب الإنسان ممّا لا يهربُ أبداً؟