إن الحادث المأساوي الذي وقع في الساعات الأولى من بداية العام الميلادي في وسط اسطنبول كان صفعة قاسية لكل من تفاءل بقرب انتهاء المسلسلات الدموية، وكان بمثابة رسالة مباشرة من هؤلاء المتطرفين إلى جميع شعوب العالم، على أنهم سيضربون بيد الله في الأرض، و بتطبيق شريعته كيفما أرادوا.
إن هؤلاء المتطرفين يحاولون التسلل إلى عقولنا لتحليل أفعالهم المحرمة... وللأسف، فقد نجحوا في ذلك، فليس المجرم هو من أطلق النيران على ضحايا الحادث الإرهابي فقط، بل هؤلاء الذين وفروا شبكة الأمان في ارتكاب هذا العمل الإرهابي، وكانوا أخطر من خلال توفير المبرر لارتكاب هذا الجرم.
لقد أطلق هذا الحدث سؤالا لعقولنا العربية والإسلامية، هل سنكون فرحين لما فعله القاتل بسفك الدماء في مكان الحدث الإرهابي لارتباطه بكونه "الملهى" ؟ هل بهذه الأعمال الإرهابية يتم تطبيق شريعة الله؟ أم تطبيق شريعة الغاب التي لا تبيح قتل حيوان لأبناء فصيلته!! فهل أصبح الجنس البشري يختلف في فصيلته بناء على اختلاف عقيدته أو بممارسة حرياته، ليتم تبرير شريعة الغاب تلك؟ هل يشكل من هم في "الملهى" خطرا أكثر ممن يستبيح أرضنا وعرضنا؟ أم أنهم خطر استراتيجي على قضيتا العربية والإسلامية؟! هل هم من الخارجين عن الصف الوطني؟ أم أنهم أخطر من مفاعل ديمونة؟
أليس من المجدي الدفاع أولا عن الأرض، وهذا ما شرعته جميع المواثيق الدولية والأديان السماوية، قبل الاعتداء على حق الإنسان في الحياة وسفك دمائه؟ وأيضا، وحتى أكون واضحا، فأنا لا أتحدث هنا عن موقف سياسي مع أو ضد سياسة دولة ما، وإنما أنا ضد قتل المدنيين مهما كان دينهم ولونهم وفكرهم، ضد قتل المدنيين في دور العبادة، أو المتواجدين على شاطئ البحر وهم يرتدون ملابسه المختلفة من بكيني أو بوركيني. ضد قتلهم وهم يحتسون القهوة أو النبيذ، ضد القتل وهم يأكلون المنسف بلحم الخاروف أو يأكلون مشاوي خنزير، ضد قتل المدنيين وهم يرقصون الدبكة أو يرقصون السالسا. بالمختصر المفيد، أنا ضد قتل المدنيين أينما وكيفما وجدوا.
وقد تختلف معي عزيزي القارئ حول دور الإعلام في تغطية هذا الحدث وحياديته، وقد أتفق معك، ولكن ألا نتفق سويا أن تسمية المكان بالملهى، يُغذي العقلية الرجعية ويُنعشها لاستثمار الأفكار الظلامية من أجل استباحة الدماء البريئة ومباركة الجريمة؟
قد لا نختلف أن الإعلام لعب دورا مؤججا وساعد هؤلاء في الانقضاض على الضحايا، من خلال ترويج الأفكار التي يرديها المعتدون ليتناولها الجمهور وكأنها طبق شهي لإحياء العقلية الرجعية العربية التي تبحث عن التربة الخصبة لنموها. لقد أصبح المواطن العربي بذلك ضحية تُذبح ثلاث مرات (بقتله أولا، وبالترويج عنه، وبتبرير قتله)، ومطارداً في وطنه وفي الغربة، فأمسى ضحية نفسه بنفسه.
لقد أصبحنا في تيه وحيرة، ونحن إذ ندرك أن أعمارنا مقدرة، ولكننا لا نعلم أي تهلكة تنتظرنا، ومتى وأين سيأتي دورنا للموت بهذا السباق المجاني، سواء كنا في كنيسة أو في مسجد، أو مكان أثري، أو في مكان تسوق، فقد أكون أنا أو أنت عزيزي القارئ ممن سيأتي دوره ضمن لائحة الموتى في تفجير هنا أو رصاصة هناك.
وإنه لمن المستهجن في الأمر كله، هو غياب دور رجال الدين; المسلمين والمسحيين واليهود. بالإضافة إلى غياب ما كان يعرف ب "المثقف العربي" الذي أصبح يضع نفسه في أماكن يجب أن لا يتواجد بها، ربما بسبب الجشع الذي جعلهم يحتسبون ذاتهم مع محور معين ضد محور آخر.
لقد جاءت الأديان جميعا لتعزز أهمية وقدسية النفس البشرية وحقها في الحياة، وقد استندت منظومة حقوق الإنسان على الحق في الحياة من خلال ما نصت عليه المواثيق الدولية. ويعتبر التعدي على هذا الحق، من الأعمال اللا إنسانية واللا أخلاقية في المجتمع. لذلك فإن محاور المواجهة تكمن أولا في إعادة تغذية العقول الرجعية وتربيتها وتثقيفها في الدين، وتعليمها بأن الله محبة والدين للجميع. وفي رفض القتل ومحاربة الأفكار الرجعية المتطرفة، وتحمل المجتمع مسؤولياته في الدفاع عن المدنيين وحماية حقوقهم وأمنهم.