المقاومة الفلسطينية شأن وجودي..!

thumbgen (41)
حجم الخط
 

ما من شأن في العالم تختلط فيه الأوراق بفظاعة، مثل القضية الفلسطينية. فالشعب الذي احتُل وطنه التاريخي وشُرد وقُتل بلا رحمة على مدى عقود، يُعامل على أنه ندٌّ لقوة الاحتلال، ويوصف في كثير من الأحيان بأنه هو العدواني والعنيف. وفي حين تُحلل كل الشرائع والقوانين مقاومة الاحتلال، أصبحت أعمال المقاومة الفلسطينية وحدها توصف بأنها "عنف"، و"تشدد"، و"إرهاب". ولكثرة الإلحاح على هذه الأوصاف، أصبح البعض يشكّون أحياناً في أخلاقية فعل المقاومة نفسه، في تعبير عن الأزمة وضبابية الرؤية.
لم يكن الشعب الفلسطيني، ولن يكون في أي يوم، مغرماً بالموت لنفسه ولا لغيره. كان هذا الشعبُ، قبل الهجمة غير الإنسانية التي تعرض لها في أرضه، تجسيداً لحب الحياة والبناء والتقدم. وعلى الرغم من الاحتلالات التي توالت عليه، كان الوطن الفلسطيني الصغير الخاضع للسلطة العثمانية يمور بالعراقة والتمدن والحضارة، ويتمع بحياة ثقافية وفنية تفيض بالعافية. ثم تكالبت عليه النوائب، بدءاً بالاستعمار البريطاني الوحشي، وصولاً إلى المشروع الصهيوني البربري الذي استهدف وجود الفلسطينيين نفسه –وما يزال.
لم تنصف قوى العالم الكبرى الشعب الفلسطيني، وضربت عرض الحائط بحجج قضيته العادلة. ومنحت هذه القوى والمؤسسات الدولية التابعة لها لأناس كانوا يشكلون أقل 10 % من سكان فلسطين في العام 1917، أكثر من نصفها في قرار التقسيم العام 1947. وبعد ذلك سمحت لهم بالاستيلاء على فلسطين كلها وترك أصحابها نهباً للتشريد والقتل والاعتقال ومصادرة الممتلكات، بلا حول ولا قوة. وعلى مدار عقود قاتمة، ووجهت شتى أشكال نضالات الفلسطينيين المشروعة من أجل حقهم الموثق تاريخياً، بأسوأ أنواع القمع والتآمر والتجاهل. وحتى عندما اجتهد بعض الفلسطينيين فتنازلوا عن 78 % من فلسطين التاريخية للعدو، واعترفوا له بحق لا يمكن أن يكون له، ونابوا عنه في حراسة نوم مستوطنيه وقمعوا المقاومين الفلسطينيين، لم يُمنح الفلسطينيون شيئاً سوى المزيد من الشيء نفسه.
يومياً، يُقتل الفتيان الذين يواجهون الدبابات بالهتاف والحجارة برصاص الجنود؛ ويعتقل الأطفال والبنات الصغيرات وتصدُر عليهم أحكام مطولة بالسجن؛ ويعاني الشباب والشيب والنساء والشيوخ من الإذلال اليومي على نقاط التفتيش؛ ويشيَّع الشهداء بلا انتهاء وتثكل الأمهات. ثم عندما يموت مستوطن وحشي واحد أو جندي قاتل، يقوم العالم ولا يقعد إشفاقاً على المحتلين وإدانة للفلسطينيين.
ليس المحتلون في فلسطين مواطنين عاديين لدولة عادية. إنهم غرباء، بشهادة أسمائهم ولغاتهم وألوان بشرتهم. وهم ليسوا مدنيين بالمعنى الحقيقي، وإنما يخدمون جميعاً في جيش احتلال، كعسكريين في الخدمة أو في الاحتياط لفترات طويلة. وليس هناك أحد غير مسلح تقريباً في كيان الاحتلال، بالرغم من حراسة الجيش والشرطة للمستوطنين الشوفينيين، وتجريد الفلسطينيين من أي وسيلة للدفاع.
ربما يجدر التأكيد على تذكر هذه الحقائق لمناسبتين: يوم الشهيد الفلسطيني الذي صادف أول هذا الشهر، واستشهاد منفذ عملية القدس هذا الأسبوع، فادي القنبر. ويحيي يوم الشهيد الفلسطيني ذكرى استشهاد أحمد موسى سلامة في عملية عيلبون ضد جنود الاحتلال، يوم انطلاقة الثورة الفلسطينية الحديثة في العام 1965. وقد استشهد سلامة بعد نسف جسر عيلبون، وقتل اثنين من جنود العدو. لكن، لسبب ما، يبدو قتل فادي القنبر لجنود الاحتلال بمذاق مختلف. ففي تلك المرة الأولى، كان الناس أكثر أملاً وشعوراً بالأحقية. لكن عملية القدس الأخيرة تولد مشاعر مختلطة. كانت هذه العملية مدفوعة باليأس أكثر من الأمل. من المؤسف اضطرار الشباب الفلسطينيين، بعد كل هذه السنوات من النضالات والتضحيات الفلسطينية، إلى تنفيذ عمليات فردية غير مخططة، نتيجة اليأس من سلوك العالم وقياداتهم. ومن المؤلم مشاهدة هذا الحضور الكثيف للموت في الخبرة الفلسطينية، سواء بتعرضهم للقتل أو اضطرارهم إلى القتل. ومن المحبط رؤية العجز ونضوب الخيارات أمام الفلسطينيين الذين لا يفيدهم تنازل ولا عناد.
لكن الاحتفاظ بالإيمان بأخلاقية المقاومة هو شأن وجودي بالنسبة للفلسطينيين. والبديل هو الاستسلام لإرادة قوى سيسعدها شطب الفلسطينيين من التاريخ. وفي النهاية، تشكل المقاومة للفلسطينيين فعل حياة، وليس عبثية. وقد لخص الفكرة كلها مقطع الشاعر إبراهيم نصرالله: "لا أقول لك الآن إني سأمضي إلى الموت/ لا أعشق الموت، لكنه سلِّمي للحياة".

عن الغد الاردنية