يستوعب الفلسطيني ويفهم أن الانقسام الداخلي داء صعب ليس من السهل حله والشفاء منه، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بمصالح شخصية لفصائل ارتضت بالتفكير المستمر في الحكم والكرسي، غير أن هذا المواطن المغلوب على أمره لا يمكنه استيعاب أن يظل محاصراً بنار الانقسام كل الوقت.
الحديث هنا واسع حين يتعلق الموضوع باستعراض نكبات الفلسطينيين جراء انقسام داخلي كارثي عنوانه السيطرة على قطاع غزة، إلا أن المشكلة الحاضرة الآن تتعلق بأزمة الكهرباء، هذه الأزمة التي حولت حياة الفلسطينيين في غزة إلى جحيم بالفعل، وزادت من معدلات الإصابات بالجلطات والسكري وأمراض مزمنة وغير مزمنة.
لنا أن نتخيل كيف هي حال الإنسان حينما يفقد نعمة الكهرباء لعدة ساعات، وحين تدخل هذه الكهرباء في تفاصيل تفاصيل حياته، ابتداءً بمتعلقاته الشخصية إلى قضايا تتصل بتوليف نمط حياته وحياة أسرته، فكيف إذن هو حال أهلنا في قطاع غزة الذين يضبطون عقارب ساعاتهم كل الوقت مع مواعيد انقطاع وعودة التيار الكهربائي؟
تناول موضوع أزمة الكهرباء في غزة يبعث على الاستياء الشديد، سواء عند صانع القرار أو عند المتابع وحتى المواطن العادي، فهذه الأزمة التي استفحلت وتزامنت مع الانقسام الفلسطيني الداخلي منتصف حزيران 2007 والحصار الدولي الخانق على القطاع، هذه الأزمة تعكس بقوة المزاج الفلسطيني العام في إدارة السياسة الداخلية.
هذا المزاج لا يفكر أبعد من تحقيق المصالح الشخصية، ذلك أن الثقافة السائدة اليوم تتركز على أن كل فصيل يخدم بالدرجة الأولى أزلامه والمنضوين تحت رايته، وكذلك الحال بالنسبة لمن يديرون السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والنتيجة أن مشكلات كثيرة خرجت من رحم الانقسام لم يجر العمل على حلها، بل زادت تفاقماً واستفحالاً.
المتتبع لأزمة الكهرباء في غزة بالتأكيد سيتوه أمام تبادل الاتهامات بين حكومة "حماس" والسلطة الفلسطينية إزاء التعامل مع هذا الملف، ذلك أن كل طرف يعفي نفسه من المسؤولية الأخلاقية والقانونية الواجباتية عن هذه الأزمة، وكأن مصدر المشكلة هو الفلسطيني نفسه وأن عليه أن يتعود مع فكرة جداول الانقطاع وعودة التيار الكهربائي.
في حقيقة الأمر، يجوز القول: إن حكومة "حماس" ومعها سلطة الطاقة في غزة هي الجهة المسؤولة بالدرجة الأولى عن انقطاع التيار الكهربائي وعدم الاستجابة لحاجة المواطنين بضرورة وصل الكهرباء، خصوصاً في أوقات صعبة مثل فصل الشتاء البارد أو في فصل الصيف الساخن.
دائماً سنسمع مبررات غير منطقية يتم استدعاؤها حين يحتاج المواطن إلى إجابات شافية شفافة عن موضوع التيار الكهربائي، غير أن ما يراه المواطنون صحيحاً وحقيقياً هو غياب الإرادة السياسية لحل مشكلة الكهرباء، حين يتعلق الأمر بفصائل تكره بعضها البعض، ودول تنظر إلى بعض هذه الفصائل الفلسطينية بعين الشك والريبة.
في قطاع غزة توجد ثلاثة خطوط تنقل التيار الكهربائي، الأول يأتي من إسرائيل التي تزود القطاع بحوالى 120 ميغاواط، وهذا الخط لم يتحسن ولم يستجب إلى الحاجات الإنسانية في القطاع، إن على مستوى النمو السكاني أو على مستوى تحديات مشكلات قد تطرأ في الخطين الآخرين.
وبطبيعة الحال أغلب الاعتماد الفلسطيني يأتي من إسرائيل، فهي التي تتحكم في حركة المعابر وهي التي تنقل السولار وتفرض ضرائب باهظة، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس سلباً على موازنة السلطة الفلسطينية، حيث أفصح وزير المالية شكري بشارة مؤخراً، عن أن الحكومة الفلسطينية في رام الله تؤمن الطاقة لقطاع غزة بمجموع تكلفة تصل إلى حوالى 270 مليون دولار سنوياً، أي مليار شيكل تقريباً.
هذا المبلغ الكبير يساوي أكثر من 30% من العجز في الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية حسب بشارة، ويزيد عليه أن الحكومة تدفع كافة المصروفات التي تتعلق بالكهرباء، سواء لجهة مولد الطاقة في شركة التوليد أو الكهرباء التي يجري توريدها من جمهورية مصر العربية.
الخط الثاني مصدره مصر التي تزود القطاع بما لا يزيد على 25 ميغاواط، إلى جانب محطة توليد الكهرباء في غزة التي تنتج من 70 إلى 80 ميغاواط من الكهرباء، في الوقت الذي يحتاج فيه سكان غزة إلى حوالى 600 ميغاواط، بحسب إحصائيات صادرة عن شركة التوزيع.
حاجة الفلسطينيين للكهرباء هي أكثر بكثير مما يحصلون عليه، الأمر الذي يعكس وجود ما يسمى بجداول ساعات قطع ووصل التيار الكهربائي، لكن هذا الأمر طال على أهلنا في القطاع، الذين يمكنهم تفهم انقطاع التيار لعدة ساعات، وليس قطعه لأكثر من نصف اليوم.
هذه المشكلة التي تتفاقم مع مواعيد الصيف والشتاء بحاجة فعلاً إلى حل جذري، إذ من الصعب جداً الحديث عن أزمة حصار كبيرة، تتفرع منها أزمة كهرباء ومياه وخدمات وإغلاق معابر، وفوقها ارتفاع معدلات البطالة وتدهور القوة الشرائية بسبب تدهور الوضع الاقتصادي في غزة.
المواطن لا يرغب في فرز الجهة المعطلة والجهة التي تهرب من مسؤولياتها عن انقطاع التيار الكهربائي، فهو حين ينظر إلى المسألة بالعموم ومن زاوية أنه ليس هناك من حل لأزمة الكهرباء، والأوضاع تتدهور من سيء إلى أسوأ، هذا المواطن سيتهم الجميع بالتقصير والتقاعس عن ممارسة دوره تجاهه.
إذا كان من الصعب على فصائل الانقسام أن يتحدثوا في الموضوعات الكبرى المتعلقة بمصير الانقسام نفسه والعودة إلى لم الشمل والوحدة وغيرها من العناوين المهمة، فليتفضلوا إذن ليناقشوا في الأمور التي يفترض أنها سهلة وتتصل بأدق تفاصيل حياة المواطن الفلسطيني.
على الجميع أن يتضافر ويتحلى بالمسؤولية العالية لحل مشكلات يمكن تجنبها أو على الأقل التخفيف من أثقالها، وحيث يحل فصل الشتاء ضيفاً ثقيل الظل على الفلسطينيين، فعلى الأقل مطلوب من فصائل العمل الوطني والمسؤولين في صنع القرار أن يخففوا من وطأة الشتاء على المواطن، حتى يكون هذا الأول ضيفاً خفيف الظل.