مهند ذويب " فاطِمة الخَلف: كاتِبة مِن حَلَب تَعبثُ في مُخيِّلة التاريخ! "

ltSgNHop
حجم الخط

لَم تَكن مصادَفةً أبدًا، كانَ الجَوّ مَشحوناً بإرهاصات اللِّقاء، وحُمّى التّجلي كَانَت تُحيطُني في فَوضى الذّكريات، يَشُق عبابَ الصّمتِ صَوتُ دَرويشَ يَصرخ بي، وبِكُتل الحَكايا التي تَتَكدّس حَولي، بِمنيف والنّهايات، بِنصرَ الله وأرواح كليمنجارو، بِهَمنغواي، وبالكُتب المُتناثرة التي تَخلقُ فَوضاي، ويَقول:

 

 

" اقرأ .. اقرأ باسمِ الفِدائِيِّ الذي خَلَقا

 

 

مِن جَزمةٍ أفُقا

 

 

بسمِ الفدائيّ الذي خَلَقا

 

 

مِن جُرحِهِ شَفَقا "

 

 

ويُكمِل تِلاوَته المَجنونة، لسِفر الثّورة المُقدس، وأنا أكمِلُ تَحديقي فيما أرى، مِن حَلب .؟، إنها كاتِبة من حَلب، أقرأ مرّة أخرى، لا أظنّها تَعيشُ هناك، رُبما نَزحت – أحدّثُ نفسي - فالحَجر ماتَ في تِلكَ البقعة، وأعيدُ مرّة أخرى التأكدَ من ذلك، كَانَ لقاؤنا تَواطؤًا مَع القَدر، ومَع التّفاصيل الصَغيرة التي توحي بمعجزةٍ ما، كانَ لقاؤنا الإلكتروني يا فاطِمة متوقعًا.

 

 

فاطِمة الخَلف، كاتِبة من حَلب، مِن مدينة تداخَل فيها الموتُ والحياة، نَشرت كِتابها الأول بِعنوان: العابِث في مخيّلتي، وهو رسائِلٌ مرسلةٌ إلى جُبرانِها، تناوَلت فيها العَديد مِن القضايا والتّفاصيل، كُنتُ أقرأ مندهشاً، أيّ قلبٍ تملكُ هذه الفتاة كَي تَكتبُ عَن الحُبّ والمَوتُ يمشي قُربها حاسِر الرأس، يَخطِفُ القلوب، فأجابَتني كَلِماتُها : لَطالَما كُنتُ حَلبَ كلها، بشوارعها، وحاراتِها العَتيقة، بمنازلها المُهدمة، أشبِهُ حلب !، تلكَ المدينة التي دمّرها أهلها دونَ شعورٍ بالذنب، الذينَ سرقوا مِنها بسمَتها باسمِ الحُب، هكذا أنا مثل حَلَب .."، لقد عَبثت في رأسي، هذه الصّغيرة التي لم تجاوز الخامِسة والعشرين أدرَكت أيّ ارتباطٍ يمكنُ أن يَكونَ بين الحُب والحَرب، فكأنّها فريدريك هِنري بَطل رواية وداعاً أيّها السّلاح، الذي كَان يقاومُ الوقوعَ في الحُب، فهوُ ملازِمٌ في الجَيش والحَربُ تَشغلهُ أكثَر، لكنّه وقَعَ في حُبّ كاترين باركلي ولَم يَعد يُبالي بالحَرب، كاترين التي تَموتُ في ولادَتها فيعودُ فريدريك وَحيداً، فالحُبّ والحَربُ سَواء !.

 

 

تُخبرني فاطِمة أنّها مِن مواليد حَلب عام 1993م، بدأت مَوهبتها بالظّهور مُبكراً، فقد اعتادَت على كِتابة الرّسائِل لوالِدها، ومِن خلالِ تلكَ الرّسائِل بدأت رِحلتها في الكِتابة والقراءة، فأكبّت على المُطالعة في شتّى المَجالات؛ لأنّ القراءة طَريقُ الكِتابة، وكانَ لأحداثِ سوريّا الأثر الكَبير في تَعزيز مَوهِبتها، فالكِتابةَ هُروبٌ مِن ألمِ الواقِع، وأوجاعِ الفَقد، فالكتابة منفذها الوحيد للتعبير عن أشياء بداخِلها، فَتكتب لأنّ حياةً واحدةً لا تَكفيها، فهيَ – على حَدّ قولِها- تَعيشُ مع كُلّ كلمةٍ تَخطّها عِدة حَيوات، وفِكرة الكِتاب مستلهمة مِن رسائِل جبران، وهي رسائِل موجهة لشخص خَيالي، تُجسّد معاناة الحُب وعذابه، تَركت فاطِمة نهايَة الكِتاب مفتوحة؛ لأنها تعتقد أنّها ربما تَلتقي بهذا الشّخصِ يوماً ما، وأكّدت أنّها تَسعى جاهِدة لإنتاجِ أعمالَ أدبيّة أخرى، بمستوىً أفضل، ولغةٍ أقوى.

 

 

عِندما طَلبتُ منها الحَديثَ عَن حلب قالت: " حلب هي المَحبرة، وهيَ القلم، وهي سِرّ إصراري عَلى نَشرِ عَملي الأدبيَّ الأول؛ حَتى يَكونَ لأسمِها مَكانٌ في قُلوبِ جَميع مَن قَرأ كِتابي، وَكلّ من يَتَذوق من كلماتِ أدباءِ حَلَب، محالٌ أن لا يُفكرَ في زيارةِ هذه المدينة، هذه المَدينة التي حارَب المَوت بِكل الطرقِ المُمكِنة، ولا أظنّ أنّ مدينة في التاريخ عانَت ما عانَته حَلب "، وتَحدثت فاطِمة كَثيراً عَن مُعاناتِهم، عَن المَوت الذي يَخطِف الأصدِقاءَ والأطفال الشّجر والحَجَر، فيومياً توصي أهلَها عِندما تَخرج مِن البيتَ وتودّعهم، إنّها الحَرب التي لا تُبقي ولا تَذر.

 

 

بعدَ حديثٍ طَويل، سألتُ فاطِمة: لو أتيحَت لكِ فرصةٌ للخروجِ مِن حلب، هَل تخرجين .؟، أجابتني بحزم: " ما بَطلع !، حلب حياتي ! "، عِندها عَرفَ الدّمعُ مَسيلَه، وعَرفَ التاريخُ أنّ فاطِمة فعلاً سَتعبثُ في مخيّلته، وأحداثِه، فالآن يَكبرُ البردُ في شَوارِع حلب مختلطاً بالدّم المتخثر، فيما تَجري طفلةٌ بعمرِ الخَريفِ العَربي لتختبئ في حضنِ بيتِها المُهدّم، وتسألَهُ أينَ أمي .؟، الآنَ يلعبُ الأطفالُ في حَلب لعبَة المَوت، فيتسابَقونَ لاصطِيادِ الفراشات، وغداً سيأتي عالَم الرّفقِ بالفَراش ليتّهم أطفالَ حلب بالإرهاب !، هؤلاء الأطفال سَيكتبونَ التّاريخ بأناملهم العارية، سَيرفَعونَ كِتابَ فاطِمة عالياً ويقولونَ بعيونِهم ما تَعجزُ لُغاتُ الأرضِ عَن قولِه، غَداً ستنبتُ حلبٌ بالحُبّ مِن جديد، وتدعوني فاطِمة لزيارَتها، وتقولُ لي مَرّة أخرى: حَلب حَياتي ! .