متحف ياسر عرفات: قضية وطن وحكاية شعب

ريما كتانة نزال
حجم الخط

يقول المتحف: "علينا نحن، أن نحرس ورد الشهداء".
أحتفي بالمتحف، في مكانه التاريخي الأنسب، بالقرب من الضريح وغرفة الرئيس المحاصر بينما تنهش الدبابة جسده. متحف الزمن الصعب، زمن تغلغل سرطان الخواء.
المتحف يقدم نموذجاً مختلفاً عن الفهم القبلي لنموذج القائد العربي الوحيد والأوحد، لأن ياسر عرفات كنموذج قيادي أو زعيم أو حتى رئيس، خرج عن تقاليد مواقعه، فبقي في جميع الحالات والمراحل التي مرَّ بها؛ يشبه شعبه. قدمه متحفه كجزء لا يتجزأ من الحكاية الفلسطينية والحياة اليومية الفلسطينية، ولم يجعله المتحف جزءاً من الذكريات.
يفتح المتحف المشهد الفلسطيني على مصراعيه، مقدماً الرئيس ضمن قضية الشعب، يروي الحكاية الفلسطينية مذيلة بتوقيع المؤسس. الرئيس عنوان المتحف والنضال موضوعها. لا يطغى الرئيس على القضية ولا ينفرد ببطولة حصرية. لا يتحول الشعب إلى كومبارس بأدوار ثانوية، فالشعوب لا تتقزم عندما يكون بطلها عملاقاً. هكذا يقول المتحف بوضوح واقتدار رسالته بديهية بسيطة بتعقيداتها.
متحف لا يثرثر بل يحكي ويبرهن ويدحض: يبرهن أن البدء كان في الفعل الوطني المستقل بالشخصية والمرامي؛ ومن ثم جاءت الكلمة. وكانت الكلمة، وحدة الشعب الوطنية على برنامج الثورة. وكانت أن النضال هو البوابة التي يعبُرُ منها القادة الشهداء إلى مكانهم، ويدحض فكرة أن القادة يعبرون قبل القضية ودونها.
المتحف يضع عناوين القضية، من النكبة إلى الانتفاضة وما بينهما، من الشهداء والأسرى إلى المقاومة بأشكالها المتعددة، من المحافل الدولية والسياسية إلى الشؤون الداخلية ومقومات الصمود؛ ليشكل كل ذلك ما يتصل بالهوية ويطرحها ضمن خصوصية فلسطينية المعادلات.
عرض أصيل وحداثي بتسلسله الزمني، يضيء على المعرفة التاريخية في معادلات سهلة، صور تتحدث، وسائل تقنية تلقي محاضرات ومعلومات بمرجعيات. تسير القصة ضمن منحنيات ومتعرجات في رواق طويل وصولاً إلى مكتب الرئيس ومخدعه، في الحصار.
رئيس مختلف بتواضعه يفرض نفسه دون أبهة فارغة، رئيس مندغم بحركة الشعب ومقاومته، فياسر عرفات لم يكن قائداً نمطياً أو جامداً. نرفع رأسنا أمام متحف يعادل شعباً.
هكذا يمكن الاحتفاء بالقائد... بهذا نحافظ على "أبي عمار" حياً... ولا نجعل منه، كعادة العرب، مجرد عنوان احتفالي كرنفالي، لو فعلنا ذلك نرتكب خطيئة بحقه وحق القضية: نحوِّل الرمز إلى مومياء أو أيقونة جامدة على جدران متحف.
يستحضر المتحف صوراً وملفات من مواقف وأحداث وإشارات جسام بالصور، رحلة توغل في الزمن الفلسطيني، تعيد المتجول في آفاقه إلى أرض الواقع، بالوقت الذي يبقي أبوابه مفتوحة دائماً على السماء. متحف يحفِّز على المراجعة والتقييم والتطوير، للمتحف والمسيرة. سأفتقد بعض الشهداء والأعلام السياسية والثقافية من أصحاب الريادة والفرادة في مشهد الرئيس وفلسطين، من الذين أحاطوا بالرئيس ولم يتخلوا عنه في حالك الظروف! كذلك سأرى "الكوتا" النسائية الشبيهة بحصص النساء في الواقع، دون أن تحظى برؤية تتصل باهتمام وأداء صاحب المتحف.
ومن خلال رصدي للمعاني التي يحملها المتحف التاريخي المهيب، متحف الشهيد ياسر عرفات، بما يتضمن من إشارات تاريخية ونضالية، وبما يرصد من وقائع ومؤشرات ذات دلالات عامة، حددت ملامح حياتنا السياسية والوطنية لنصف قرن مضى أو يزيد. يؤسس لجهود استكمالية ضرورية منها توسيع الجوانب التاريخية ما أمكن ذلك.
جهود تصب في مجرى إعادة كتابة تاريخنا الوطني المعاصر، وتصحيح الرواية التي فرضتها رؤية المستعمر المنتصر، تبدأ من سيطرة العثمانيين، تمر من "سايكس بيكو" وبمرحلة الانتداب الانجليزي ودوره في تمرير الهجرة الصهيونية الإحلالية، وتصل إلى النكبة والتشريد والاقتلاع وتبديد وتغييب الشخصية والهوية الفلسطينية.
فقد تخيلت أثناء تجوالي، أن المتحف عمل متدحرج لا يتوقف عند حدود.. أن يقودنا مكتب أبو عمار إلى مكتبة كبيرة، للناشئة والباحثين. تخيلت أن تجسيراً وربطاً ما، بين المتحف وبين المؤسسات العلمية والبحثية والمتخصصة، للاستفادة والإفادة وللعمل المشترك مع دوائر البحث العلمي الفلسطيني والمكتبات التاريخية والمتخصصة.
متحفنا في هذه المرحلة بالذات، حيث تتفاقم وتتكاثف الصعوبات ومحاولات التصفية لإجهاض حركتنا الوطنية وتراثها، وتتكاثر محاولات تزوير حقوقنا وثوابتنا، أن يشكل المتحف أداة معرفية مهمة، تُسهم في الارتقاء؛ بالوعي والدور الجمعي، في تنمية المعرفة في زمن تزدهر فيه ثورة المعرفة من أجل التقدم وتحقيق الأهداف النبيلة.
فنحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للحكاية الواقعية والموضوعية، حكاية الأرض التي تشكل محور الصراع وجوهره. ولحقوقنا الوطنية وثوابتنا التاريخية. شعبنا بحاجة من خلال متحفه الوطني الشاب لتبديد الكثير من الأوهام والأساطير التي زرعها المستعمرون والمستشرقون والمؤرخون الجدد في ثنايا صفحات تاريخنا المتداول والمقروء؛ والكثير منها ما تربى عليها جيلنا.