وقع الفشل في انتزاع مكاسب، ومنها أي مكسب جديد يعتد به، في باريس، مكسب من الممكن أن يشكل مرجعية جديدة للمفاوضات مرجعية عالمية او أممية، أي غيرتلك الرعاية المفروضة الامريكية المنحازة ، على عكس ما مُلئت به الصحف والمواقع من أحبار، ومن طَرقات لوحات المفاتيح بالحواسيب، ومن تصريحات عديد الرسميين الفلسطينيين طوال عامين، ممن هددوا وتوعدوا حال الفشل، وجعلوا النظر الى باريس كالنظر لفتح القسطنطينية.
فشلنا في باريس! وعلينا مراجعة النفس والسياسات االعقيمة بوضوح دون تعالى وادعاء انتصارات لم تحصل كما هو الحال بين طرفي الوطن.
فشلنا بمنطق التهديدات السياسية والمبالغات الاعلامية بأننا سنفعل كذا وستفعل الدول الأخرى كذا لأجل خاطرعيوننا السوداء الجميلة! وأننا دولة عظمى نؤثر في السياسة الدولية، لذا كان التلويح بردود فعل أقسى حال رفض الاسرائيلي لارادة المجتمع الدولي بلا معنى، فها هو المؤتمر الباريسي قد انتهى ونحن كما يقولون في المثل العربي الفلسطيني (مثل مصيّفة الغور).
الفشل الاكبر هو في آلية التعامل مع المجتمع الدولي، حيث كانت النظرة له كأنه المنقذ أو المهدي المنتظر الذي سينشر في الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا؟! وكنا غير صادقين مع أنفسنا عندما ظننا أن عدالة القضية والحق الذي يسير في ركابنا قد أصبح واضحا أبلجا،يتوجب معه من الدول الاستعمارية القديمة الاعتذار وتصحيح الخطأ، وأن هذا الاحساس بالشفقة أو الاهتمام تجاهنا قد طغى على مصالح الدول وصفقات الرؤساء وانتهازية العلاقات الدولية؟
لم تستطع الدبلوماسية الفلسطينية التي راهنت بكل ما تملك على المجتمع الدولي أن تحقق شيئا فهي كانت تقبض الريح بيد ولم تمسك باليد الاخرى الا الخيبة.
فما بالك بمجتمع دولي ينتصر لفلسطين البعيدة والارهاب يدق باب هذه الدول؟ ولسان حاله يقول بيتي أولى! وما بالك بمن ينظر لنا: أينظر لنا بعينين اثنتين وينظر لمشاكله بعين واحدة؟ أيجوز هذا؟
لم تستطع الرحلات السياحية المتواصلة عبر العالم للطاقم المفاوض-ولاحقا عليه طاقم المصالحة في الفصائل- الا أن تزيد من عدد المستوطنات بين صدرنا والعينين، ولم يكن لهذه السياحة إلا أن تقلص من عدد المؤمنين بالاستقلال الفلسطيني، ولتطلق العنان للغول العنصري الاسرائيلي، وجعلت من أرباب الاستيطان سادة في الدولة الاسرائيلية، وفوق كل هذا وذاك لم نستطع أن نجعل من موقفنا الداخلي "الكئيب باختلافاتنا" عاملا مساندا او عامل قوة، فنحن استبحنا المحرمات على جسد الوطن المشنوق بين الحواجز والحصار المفتت بين الشمال والجنوب الذي يعاني من الانقلاب الدموي، والانشقاق ودعوات الانفصال على إدعاء المقاومة المسلحة أو الاستقرار.
وفوق كل هذا فإن محيطنا العربي قد ملّ منا وابتعد عنا لأسباب عدة منها أننا تجاوزناه للآخر، ومنها أننا لم نستطع الاقتراب منه أو لم نستطع أن نحتمله، على أخطائه، ورغم صعوبة بعض مطالبه تحت راية القرار الفلسطيني المستقل التي استخدمناها في المعركة الداخلية في حقيقة الأمر لتلقي بظلالها على العمق العربي.
لم نستطع أن نجعل انجازاتنا الدولية في الأمم المتحدة وغيرها مما أنجزه الرئيس ابومازن آلية عمل متواصلة، بل هي قد تُكبح فعليا بعد مؤتمر باريس التشاوري، فقد لا نستطيع القيام بمتابعة فتوى الجدار العنصري، أو القيام برفع قضايا لمحكمة العدل الدولية ضد الارهاب الاسرائيلي والمستوطنات، وقد لا نستطيع الاستمرار باللجوء للامم المتحدة!ان التزمنا بما أوصت به باريس.
نحن لا نستطيع أن نلقي فشلنا بوجه الأمة التي ترفل بثياب التشرذم والانحدار والتشتت، ونحن لسنا أحسن حالا منها، نعم فشلنا في مؤتمر باريس التشاوري وليس العالمي، فلم يكن للمؤتمر أي صيغة إلزام مطلقا أو تحديد لمرجعية أممية أو انصاف حتى في التعامل ضد الارهاب الاسرائيلي، مقابل النضال الفلسطيني واستطاعت قوة اللوبي الصهيوني رغم الموقف الامريكي الذي بدا مبتعدا نظريا عن توجهات حكومة نتياهو استطاع ان يرسم له عنوانا ويتخذ مقعده في الصف الاول في باريس.
طلب المجتمعون في باريس الحفاظ الأثير على الدولة العبرية، حيث طالبوا ب(تلبية احتياجات "إسرائيل" للأمن)؟ وكأن الدولة المعتدية هي فلسطين وكان الأمن المفقود ليس في غزة والضفة، وكأنه ليس من الارهاب والاحتلال الذي يضرب ذات اليمين وذات الشمال؟
واكدوا في مقاربة واضحة ومعيبة بين الضحية مهددة الرقبة تحت المقصلة وبين رافع السيف أي الجلاد حيث أكدوا على (أهمية التزام الاسرائيليين والفلسطينيين بالقانون الدولي، والقانون الدولي الانساني، وقانون حقوق الانسان.)
طالب المؤتمر بالتطبيع الجماهيري الفلسطيني حالا،قبل أن نأخذ أي من حقوقنا المستلبة والمستباحة في كامل الأرض، وقبل تجسد الدولة الفلسطينية عبر(جَمع منتديات المجتمع المدني الاسرائيلية والفلسطينية من اجل تعزيز الحوار بين الاطراف واعادة احياء الرأي العام وتعزيز دور المجتمع المدني لدى الجانبين.)
بل أن صيغة "حل الدولتين" وهي صيغة مضللة، يتم تداولها وكأن الحديث يدور عن دولتين في طور النشوء أو الاعتراف بهما معا، فيما هو الحال أن الدولة الأولى قائمة وتنشط في تكريس احتلالها وتزوير الرواية والخوض في مستنقع الادعاء بالديمقراطية في ظل عنصرية يهودية قاتمة تقترب بل وتتفوق على نموذج جنوب افريقيا العنصري، وفي ظل أن الدولة الفلسطينية هي الدولة القائمة على الورق فقط، وأراضيها تنهب يوميا من قبل المتجبّر والمحتل المستعمر.
كان من الأجدى والأجدر هو أن يعترف مؤتمر باريس بالاجماع بالاستقلال الفلسطيني ضمن الحدود المتفق عليها للدولة الفلسطينية المعترف بها في الامم المتحدة في إنجاز يقام له ويقعد، فلم يكن هناك في المؤتمر لا هذا ولا ذاك، وكل ما تم التطبيل له فلسطينيا رسميا من أن الحل القادم سيكون بالتفاوض ضمن أمد زمني بحدود سنوات ثلاث او غير ذلك، وقرارات ملزمة ولو أخلاقيا ومن خلال مرجعية دولية.... ذهبت أدراج الرياح؟
قرر المؤتمر الاستعراضي والمشاركون فيه أنهم (يدعون كل من الجانبين إلى إبداء التزام حقيقي بحل الدولتين من خلال السياسات والأفعال والامتناع عن أية خطوات أحادية الجانب تقوض نتائج المفاوضات على قضايا الحل النهائي بما فيها القدس والحدود والأمن واللاجئين)، وذلك في نص عجيب غريب وكأننا نحن من يقوم بخطوات أحادية الجانب في القدس المتعرضة يوميا للتهويد؟ او كأننا نحن من يقطع الضفة الغربية بالسكين؟ أوكأننا بهذا النص حينما ننضم للاتفاقيات والمعاهدات الدولية أو حين نحاكم الصهاينة أمام العالم، أو حين نفضح عنصرية الكيان أو حين نقاطع الكيان اقتصاديا وثقافيا...الخ، او حين تنطلق الشرارات المتصلة من انتفاضات وهبات وصرخات ضد الاحتلال نقوم بفعل أحادي؟!
أو كأن مقاومتنا الجماهيرية السلمية والعزلاء تساوي ما يقوم به القاتل يوميا من تمزيق جسدنا ودق الأسافين فيه فيصلبون فلسطين كما صلب السيد الفلسطيني الاول السيد المسيح؟واليوم يصلبنا العالم تحت إدعاء "الامتناع عن أي خطوات احادية" من الطرفين وكأنهم متناظرين متساويين، حيث الطلقة القاتلة، والصرخة وتنهيدة الآه فعل أحادي مرفوض ؟...
قرروا في باريس بارك الله بهم الاستمرار بالاجتماعات الى ما لا نهاية حيث عبر العالم هناك أي الأطراف المشاركين (عن استعدادهم لمتابعة التقدم واللقاء مرة أخرى قبل نهاية هذا العام لدعم الجانبين في المضي قدما بحل الدولتين من خلال المفاوضات.) أي عبر المفاوضات المباشرة بلا رادع ولا تناظر ولا تساوي ولا توازي ولا جدول ولا زمن، فيفرض القوي شروطه كالعادة والعالم يحضر لاجتماعات تلو الاجتماعات فقط، ينظر ويرقب ولا يتدخل.
ذهب المؤتمرون (يدعون الجانبين إلى تأكيد التزامهم بحل الدولتين من خلال "النأي" بأنفسهم عن الأصوات الرافضة لهذا الحل)، وهل نحن ننأى عن التنظيمات الفلسطينية أو العربية التي لها وجهة نظر أخرى بالقضية الفلسطينية ولها كل الحق أن تمتلك وجهة نظر أخرى، بينما الدعم الحكومي الاسرائيلي الكامل لكل وجهات النظر الصهيونية/التوراتية التزويرية في تاريخنا، والتي تقاتلنا يوميا على فلسطيننا!وفي أرضنا؟
وكان النأي الأولى هو المطالبة الجادة تحت بند العقوبات بالنأي عن الاستيطان السرطاني، والنأي عن الاحتلال الفاشي، والنأي عن القتل المباشر على الحواجز، والنأي عن التزوير في روايات الاسرائيليين التاريخية المغلفة كذبا بغلاف الدين، والنأي عن الاستعمار والعنصرية الابارتهايدية الصهيونية، ومئات من (النأي) التي كانت الاولوية لها!
لم نرى الا النأي من المجتمع الدولي عن فلسطين! إذ مازال يتعامل مع القضية الفلسطينية -رغم حراك الرئيس أبومازن الدؤوب، ورغم مواقف بعض الدول المتقدمة مثل السويد أساسا- وكأنها من ملحقات (اكسسوارات) السياسة الدولية؟
ألم يحن الوقت لننأى بأنفسنا نحن عن كثير من الذين أدخلونا في متاهات العمل السياسي والتفاوضي بيد واحدة تقبض الريح؟ ألم يحن الوقت أن نبدل الاحصنة؟