أغرب ما في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي ـ دافوس ـ في دورة انعقاده 47 هو عنوانه ـ زعامة دقيقة ومسؤولة ـ فرغم مشاركة نحو 30 رئيس دولة وأكثر من ألف مدير شركة عملاقة، إلاّ أن تحقيق هذا الهدف، أو حتى الاقتراب منه يبدو بعيد المنال، بالنظر إلى الظروف الحالية التي يعقد المنتدى في مناخها، إذ إن متغيرات كبرى، اقتصادية وسياسية، لا بد من أن يكون لها التأثير الأكبر على صياغة اقتصاد دولي يتخذ من العنوان المشار إليه هدفاً.
والسؤال هنا، كيف ستتشكل زعامة دقيقة ومسؤولة ـ بينما من المتوقع على نطاق واسع، أن العالم سيشهد حروباً اقتصادية شاملة في ظل انقلابات سياسية واسعة تجتاح معظم تلك الأسس التي تم بناء الاقتصاد التقليدي على أساسها، متغيرات جوهرية تفتح الباب على مصراعيه للانقلاب على معظم مفاهيم العلاقات الاقتصادية القائمة الآن، وليس من المتوقع أن يشهد دافوس 47 تغيراً في هدفه الأساسي: استمرار عملية النهب الرأسمالي للشعوب، وهو الثابت الوحيد في ظل كل المتغيرات السياسية والاقتصادية، أما الانقلابات والمتغيرات فهي تبقى تفاصيل في إطار هذا الهدف الأسمى للمنتدى.
ولعل أول الانقلابات في ظل هذه الدورة، الانقلاب الصيني، فالصين ليست مجرد القوة الهابطة من مشارف القارة الكونية لتجتاح تراتب الدول الصناعية لتحتل المركز الثاني عالمياً، هذا مجرد شكل خارجي للانقلاب الصيني، أما البعد الحقيقي لهذا الانقلاب فيتعلق بالعقيدة الاقتصادية ـ الجديدة ـ للصين، البلد الشيوعي الذي أخذ يتلمس طريقه نحو اقتصاد السوق وعولمة الاقتصاد، بعد مصادرة الأسس الاقتصادية وفقاً للمفهوم الاشتراكي ـ الشيوعي الذي تبنته الصين حتى قبل ولوجها إلى عولمة الاقتصاد الدولي من بابه الواسع والعريض، هذا الباب هو باب الدورة الحالية لدافوس، إذ إنها المرة الأولى التي تشارك فيها الصين على هذا المستوى في أعمال دافوس من خلال مشاركة الرئيس الصيني شي جيننغ، الذي من المقرر أن يلقي كلمته الافتتاحية في المنتدى في إشارة إلى مدى جوهرية هذا الانقلاب في المفاهيم الاقتصادية لبلاده.
أما الانقلاب الثاني، فيتمثل بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما يمثله ذلك من بداية مرجحة لزعزعة ثبات المفاهيم التي كانت سائدة حول فوائد الوحدة الاقتصادية بين مجموعة من الدول، والتأثير الاقتصادي على سياسات مثل هذه الوحدات، فمع انزلاق بريطانيا خارج الوحدة الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي، أخذت قوى الرأي العام في أكثر من دولة من دول الاتحاد تتحرك نحو النموذج البريطاني، في وقت تتطلع أوساط عديدة من "الطبقة الوسطى" في البلاد الأوروبية نحو انتخاب قوى سياسية أعلنت سلفاً أن وصولها للسلطة يعني خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي ـ فرنسا كمثال ـ فهذه الأخيرة ستخضع لانتخابات رئاسية في نيسان القادم، وجدول أعمال الحملات الانتخابية المبكرة، يبدأ وتنتهي عند الخروج من الاتحاد الأوروبي!!
وصول ترامب إلى سدة البيت الأبيض، يشكل الانقلاب الثالث في المسار الاقتصادي الدولي، فهو يأتي رئيساً لأكبر اقتصاد في العالم من بوابة التجارة لا السياسة، مهنئاً بريطانيا على خروجها من قيود الاتحاد الأوروبي، ويتوعد الاقتصاد الثاني على مستوى العالم، الصين، بحرب اقتصادية معلنة، معتمداً على مفهوم مستجد غير مفهوم تماماً أطلق عليه بنفسه "الاقتصاد الذكي" في محاولة منه لوضع لمساته التجارية على "الثورة الاقتصادية الرابعة" كما يشير خبراء الاقتصاد الدولي، مفهوم غامض نوعاً ما، بالنظر إلى غموض وإرباك المفاهيم التي أربكت خبراء تحليل الشخصية عند ملامستهم لشخصية "ترامب" هذا!
الدورة 47 لمنتدى دافوس، دورة الحروب ومؤتمرات السلام في آن، خاصة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، حروب هي الأكثر بشاعة في منطقة هي الأغنى والأفقر في آن، منطقة يرسم خريطتها الآخرون، وتتقاتل فيها كل شعوب الأرض، ولا يبقى لأهلها سوى ضحاياها، وهي عنوان لأكثر الانقلابات دراماتيكية على الصعيد الاقتصادي، إذ نلاحظ أن دولها الغنية ـ التي كانت غنية بالأصح ـ باتت تنحو نحو التراجع والإفقار نوعاً ما، دول النفط بدأت تقترض وهي مستغرقة في إشعال الحروب وبناء فصائل المرتزقة، تزداد تسلطاً على شعوبها مع أنها مستأجرة من دول تتغنى بالديمقراطية!!
المجلس التشريعي يحذّر من كارثة إنسانية كبرى في قطاع غزة
11 أكتوبر 2023