كيف يمكن للنظامين التربوي والتعليمي أن يكونا مسؤولين عن تخلفنا؟ كيف ينتجان شخصيات تقليدية محافظة، مسكونة بالخوف من التغيير؟ للإجابة، سنعود للبيت وللمدرسة حيث تتكون شخصية الفرد متأثراً بممارسات وسلوك والديه ومعلميه، وبما يلاحظه ويسمعه ويراه منهم. وحسب د. هشام شرابي فإن شخصية الفرد تتكون بدايةً ضمن العائلة، والتي هي عبارة عن صورة مصغرة للمجتمع، والمجتمع بصورته الراهنة عبارة عن امتداد لتراثه القيمي والثقافي، وبالتالي فإن العائلة ستكون استمراراً لقيم المجتمع وأعرافه، لأن الأبوين فيها يقومان بدورهما تجاه الأبناء بشكل غريزي؛ أي قبل أن يكون لديهما استعداد مسبق لإنشاء أسرة، ووعي كافٍ لخطورة هذا الدور، فيربيان أطفالهما بحسب ما يتذكران من اختبار طفولتهما، أو بحسب ما تنصح به الجدة، ومن هنا كان القضاء على عالم الطفولة وأحلامها هو الثمن الذي يدفعه كل جيل من المجتمع، من أجل أن تستمر فيه قيم الجيل السابق وعاداته.
ويعتبر شرابي أن مجتمعنا العربي من أكثر المجتمعات قسوة على الأطفال، حيث تتسم علاقاته بهم بالتعالي عليهم، ولأنه يفصل كلياً بين عالم الصغار وعالم الكبار، ولا يعير أهمية لعالم الطفل الخاص به، ولا يقر له بشخصية خاصة وعقلية خاصة، وهذا لأن علاقة الآباء بالأبناء في السابق كانت على هذا المنوال.
أما بو علي ياسين فيعتبر أن نظام العائلة كنظام المجتمع في كل مؤسساته، نظام هرمي، يقوم على السلطة والعنف، ويحتل الأب فيه المركز الرئيس والأول، ويحتل الطفل المركز الأدنى، ويستمد الأب (البطريرك) سلطاته من خلال: قوته الجسدية، والاقتصادية (بحكم أنه هو المعيل)، وقوته الاجتماعية التي يستمدها من المجتمع والقانون، اللذين يجيزان له تسلطه على الأسرة.
ويعتمد المجتمع على الأسرة (البطريركية) لتحقيق هدفه الأساسي والمتمثل في جعل الجيل الجديد صورة عن الجيل السابق، متواصلا مع قيمه وثقافته وعاداته، أي بالاعتماد على النظام التربوي القائم على إخضاع الفرد وخنق تمرده، وقهر أي حالة تخرج عن السياق العام.
في الأسرة التسلطية، كما يَضَّطهد الأبُ طفله، فإن أمه تسحَق شخصيته؛ فالأم التي تبالغ في حرصها على ابنها وتمنعه من التصرف بمفرده، وتبقيه تحت المراقبة والحصار الدائمين، فإنها بذلك لن تتيح له سوى مجال ضيق لتحقيق استقلاله الذاتي، وستصادر حياته الخاصة، ومن نتائج هذا الإفراط في الحرص جعل الطفل يتكل على أمه في كل شيء، وتعزيز شعوره بالعجز.
ويشير شرابي إلى سلبية علاقة الأب بطفله في سنيه الأولى، حيث يبقيه على الهامش، ولا يبدي اهتماما جديا به إلا بعد ما يكبر، فلا يخطر على باله إلا إذا أراد ملاعبته أو عرضه على الضيوف (كقطعة جميلة)، وهذا بدوره سيعلم الطفل كيف يرى صورته الذاتية، وكيف يغذي احترامه لنفسه على أساس رأي الآخرين به، وهذا النظام التربوي سيثني الطفل عن الثقة بآرائه الخاصة، وسيشجعه على قبول آراء الآخرين دون تردد، وكل ذلك ينمي في نفسه الإذعان للسلطة، أي لأبيه أو الشيخ أو المعلم، وفيما بعد لكل من هو أقوى منه أو أعلى منـزلة، وعندما يكبر سيتعلم أن يكون متحفظا ولا يتخذ موقفا حاسما في أي موضوع، ومما يعمق من إحساسه هذا هو عادة التلقين التي يلجأ لها الأبوان، والمدرسة فيما بعد.
ويؤكد شرابي أن التلقين هو الشكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السلطة وتثبيتها، وأنها طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجال للتساؤل والبحث والتجريب، فالتلقين من حيث إنه طريقة تسلطية في تعليم الأطفال ستجعل منهم مجرد متلقين مستمعين لا يتأثرون بمضمون ما يحفظون، فالطفل الذكي هنا والذي سينال إعجاب الآخرين ليس من يطرح الأسئلة الملائمة والمحيرة، بل هو من يعطي الإجابات الصحيحة (الملقنة)، والنتيجة الحتمية لهذا النمط التربوي هي اهتزاز ثقة الطفل بنفسه، وخوفه من مخالفة القيم السائدة، أو اجتراح أفكار جديدة ما يؤدي في النهاية إلى تكريس صورة المجتمع المحافظ الذي يخاف من كل جديد.
وفي ثقافتنا المجتمعية لا تنجب العائلة طفلها من أجل ذاته، بل من أجل الأب نفسه، أي أن ولادته ليست إبداعا حرا، بل محاولة لتمديد حياة الأب، ليكون سنداً له، وضماناً لشيخوخته، أو من أجل إرضاء كبريائه، حيث يثبت رجولته بكثرة أطفاله، وبالتالي فهو يُحرم من حياته الخاصة ليتاح لأبيه أن يعيش من خلاله، فيعلمه ليباهي بتفوقه على الآخرين، ويدفعه للعمل ليساهم في مصروف البيت، ويزوجه رغما عنه ليفرح به، ويأمره بالإنجاب ليلاعب أطفاله.. وهكذا، ما يجعل حياة الابن مزيفة منذ البدء، وفي النهاية ما هو إلا استمرارا للعائلة والقبيلة، وهذه الخاصية لا يتصف بها العربي وحده، بل نجدها في مختلف المجتمعات والعصور، ولكن العرب يذهبون بها إلى أبعد الحدود.
ومن هنا، فإن أحد أهم أسباب تخلف العالم العربي أن الفرد يأتي فيها دوما نسخة عن العائلة، والعائلة تعيد إنتاج قيم وتقاليد المجتمع القديمة (بسلبياتها وإيجابياتها)، وكأن الزمن متوقف عند صورته التاريخية الجامدة، لذلك، لم يكن المجتمع العربي يسمح بأي خروج عن المألوف، وظل العرب من أكثر الشعوب تغنيا بأمجاد التاريخ.. ولذلك، أخفق العرب في بناء دولهم؛ لأنهم بنوا عوضا عنها أنظمة سياسية مرتبطة بالقبيلة والطائفة وتقاليدها، وهو ما يتناقض مع بناء الدولة الحديثة وإقامة مؤسسات عصرية؛ ولذلك كان النظام العربي قائما على الفردية، شيخ القبيلة، أو زعيم الطائفة، أو حتى رئيس الدولة الذي لم يكن في الواقع سوى شيخ قبيلة، ينظر للشعب بوصفهم رعية، ولذلك أيضا كانت المؤسسة دوما تتبع له ولقبيلته.. وصار النظام أو السلطة (القبلية) البديل عن المجتمع المدني، ولذلك رفضت المجتمعات العربية على مدى تاريخها أية تعددية، أو حرية فكر، أو أي تطور حقيقي ينسف البنى القائمة المستهلكة.
في الأسرة البطريركية يُخضع الأبُ أبناءه لمفاهيمه، تماما كما يُخضع الزعيمُ رعيته.. في هذا النظام لا وجود للحرية، أو الحق في الاختلاف، أو التنوع، بل استتباع وإخضاع.
الكل هنا جزءٌ من قبيلة، من طائفة، من نظام يدور حول نفسه بلا أي فرصة للتقدم.