اليوم يودع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما العالم ومعه الشعب الأميركي، ضمن مراسم نقل السلطة إلى دونالد ترامب، الذي يحل رئيساً على الولايات المتحدة لأربعة أعوام، الله أعلم كيف سيكون شكلها خصوصاً وأن الرجل لم يأت إلى السلطة من خلفية سياسية متمكنة.
أوباما قبل مغادرته السلطة تحدث في مؤتمر صحافي عن ضرورة التعاون وتحسين العلاقات مع روسيا، وأن من مصلحة بلاده بناء علاقات جيدة مع موسكو، لكنه قال إن فرض العقوبات على هذا البلد جاء على خلفية تصرفاته والسعي لإيجاد موقع متقدم في سلم النظام العالمي.
لم يركز على الشأن الروسي فقط، بل ذهب أوباما إلى حد انتقاد السياسة الاستيطانية الإسرائيلية التي وصفها بأنها تهدد حل الدولتين وتقود إلى دولة واحدة، ما دفعه للتأكيد على أن الصراع في الشرق الأوسط لا يمكن تسويته دون إقامة دولة فلسطينية كاملة.
على أن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته يغادر البيت الأبيض بشعبية عالية توازي شعبيته حينما انتخب العام 2008، حيث أشار استطلاع للرأي إلى أن 60% من الأميركيين راضون عن إدارة الرئيس للبلاد خلال فترة ولايته، ويبدو أن هذا الاستطلاع يعكس تخوف الرأي العام الأميركي من الرئيس المنتخب ترامب الذي لا يقف في خطاباته على أرضية صلبة، ما أثر بشكل جلي على شعبيته وتدنيها خصوصاً مع موعد استلامه السلطة.
في حقيقة الأمر وبجردة حساب للسياسة الخارجية الأميركية في عهد أوباما، يمكن القول إنها لم تكن جيدة بالمستوى الذي نفع العالم وحقق السلم والأمن الدوليين، بدليل أن الحروب زادت في العالم والشرق الأوسط الجديد أصبح جديداً بالمفهوم السلبي الذي أرادته وتحدثت عنه الوزيرة السابقة كوندوليزا رايس.
في عهد أوباما توحشت إسرائيل أكثر وتطاولت على الفلسطينيين بالاستيطان وغير الاستيطان، وبدا أن انهيار أساس حل الدولتين هو من صنيعة إدارة أوباما التي سكتت كل الوقت عن الأفعال الإجرامية الإسرائيلية، ومن ثم اقتنعت أخيراً وبعد انتهاء صلاحياتها أن الاستيطان الإسرائيلي يعقد الحل ويعتبر حجر عثرة أمام ولادة ونمو دولة فلسطينية مستقلة!!
صحيح أن أوباما ورث صراعاً فلسطينياً - إسرائيلياً معقداً للغاية، لكنه لم يفعل شيئاً يقرب من إمكانية تسوية هذا الصراع، ويمكن العودة إلى الإحصائيات لمعرفة حجم الاستيطان المتزايد والهمجي الذي أدى مع الوقت إلى تحويل مشروع الدولة الفلسطينية إلى معازل جغرافية فلسطينية غير مترابطة.
أما الشرق الأوسط فإنه يعاني من ويلات ونكبات كثيرة مزقته ومزقت شمله، فقد كانت إدارة أوباما مشاركة ومطّلعة على حجم المؤامرات التي حيكت لتفتيت العديد من الدول العربية عبر تثويرها من الداخل، ما أدى إلى وجود دول غير مستقرة ومصانع لتفريخ الإرهاب، وأخرى فاشلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وبخصوص إيران واحتوائها بالاتفاق الذي وقع معها منتصف تموز 2015، فإنه جاء على حساب الدول العربية وعلى حساب أمنها بالدرجة الأولى، ذلك أن العديد من الدول تعتبر أن الولايات المتحدة جعلت إيران تضطلع بقصد أو دون قصد بدور مؤثر في عدد من الدول العربية، مثل العراق وسورية واليمن، وأن هذا الإقواء والدعم غير المباشر قد يقود إلى استقواء إيران وتحرشها بالدول المجاورة لها إن عاجلاً أم آجلاً.
على صعيد الملف الأوكراني، ماذا فعلت إدارة أوباما غير أنها صبت الزيت على النار وحاربت روسيا أولاً بالاتحاد الأوروبي، باعتباره اليد الطولى لها وحائط الصد أمام توسع النفوذ الروسي، غير أن الموضوع الأوكراني عكس تحرشاً أوروبياً - أميركياً بروسيا لجهة تطويقها جغرافياً وعسكرياً وإحباط أي محاولات لاستعادة دورها الذي كانت تمارسه أيام الاتحاد السوفييتي.
الذي فعله أوباما هو نفس الذي فعله أسلافه من الرؤساء الأميركيين الذين لا ينظرون أبعد من تحقيق المصالح الأميركية العليا وضمان تفوق هذا البلد على غيره من بلدان العالم، فما يهم الرأي العام الأميركي بالدرجة الأولى هو النجاح في إدارة الملف الداخلي، ويبدو أن أوباما أبدع في ذلك وجنّب بلاده أزمات اقتصادية كثيرة.
المشكلة أن شخصاً مثل ترامب سيرث كل هذه التركة الثقيلة بعقلية الرجل الاقتصادي الذي يقيس المنافع بطرائق مختلفة عن السياسي، حيث وبالاستماع إلى تصريحاته السابقة في العديد من الملفات الحساسة، فإنه عدا جهله بأبجديات السياسة، تنقصه أيضاً الحكمة في إدارة شؤون البلاد والعباد.
الرئيس المنتخب ترامب قال كلاماً عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي من شأنه أن يطيح بأي بوادر لجهة تسويته، فحين يؤكد عزمه على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فإنه يلخص موقفه من العلاقة الثابتة والداعمة لإسرائيل، وبالتالي فإنه إما سيسير قدماً في نفس سياسة أوباما تجاه مجمل هذا الصراع، أو أنه سيزايد على الإدارة الأميركية السابقة ويدعم ويقوي إسرائيل أكثر فأكثر.
ترامب يقول إنه سيتعاون مع روسيا من أجل محاربة الإرهاب والتطرف، ويزيد بالذهاب في سياسته الخارجية إلى حد كبح جماح النفوذ الإيراني في المنطقة، غير أنه لا يمكن المراهنة على ترامب وسياساته، ذلك أنه معروف بأفكاره التي يستولدها بلحظات ويفصح عنها ومن ثم يطيحها أرضاً.
مجمل القول في هذا الأمر هو إن الولايات المتحدة الأميركية ليست دولة هامشية على الرغم من بعدها الجغرافي، وإنما هي الدولة الأقوى على وجه الأرض شئنا ذلك أم أبينا، ووجودها القوي يعكس نفوذها العالمي هذا الذي تسيطر فيه على مفاصل مهمة في العالم.
الاقتصاد العالمي أقل من ثلثه بقليل ربما يتركز على اقتصاد الولايات المتحدة حيث يصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى حوالى 18 تريليون دولار، أما ذراعها العسكرية فهي طويلة جداً، ويكفي القول إن موازنتها العسكرية تزيد على نصف تريليون دولار، أي أن هذه الموازنة تكاد تكون ضعف الناتج المحلي الإجمالي لدولة قوية مثل مصر.
القصد من ذلك أنه لا يمكن إغفال الدور الأميركي المؤثر على العالم، ومن المهم استيعاب هذا الدور والتفاعل معه في إطار المصالح وتقييم المنافع، ذلك أن الولايات المتحدة لا تفهم سوى لغة المصالح، ما يدفع للتأكيد على أهمية الفعل العربي في إكثار الأصدقاء وتقليل الأعداء بناء على منطق المصالح.
فلسطينياً لا ينبغي المراهنة على أي رئيس أميركي لأن الرهان كما لو أنه رهان على حصان خاسر، لكن الأمر يستحق ويستدعي إيجاد منافذ وأبواب لتحسين العلاقات الفلسطينية - الأميركية، والمراكمة عليها عاماً بعد عام، دون إغفال الحق الفلسطيني المشروع والنضال السلمي لاستعادة الحقوق الوطنية وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ألم تفعل إسرائيل ذلك حين كانت عصابات صهيونية، وانتقلت من دائرة الثقل الأوروبي إلى دائرة الثقل الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.
ألم تخلق نفوذاً قوياً في مختلف دوائر صناعة القرار الأميركي، ورسخت وجوداً وحضوراً شكّل الضامن القوي لتفوقها وتنفيذ مشروعاتها الإحلالية العنصرية؟
من الصعب أن يقوم الفلسطينيون بذلك، لكن من الخطأ أيضاً معاداة الولايات المتحدة، ما يدعونا إلى التفكير العميق في إيجاد مصالح مشتركة تجعل واشنطن ترامب مترددة في دعم إسرائيل كل الوقت. ربما يشكل مؤتمر باريس واحداً من أدوات الضغط على الولايات المتحدة للتفكير بقوة تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
الاحتلال يكرر تهديداته ويطالب الفلسطينيين بغزة النزوح جنوبا
14 أكتوبر 2023