هل جعل ترامب ظهرنا للجدار؟

أكرم عطا الله
حجم الخط

شهران ونصف الشهر منذ صدمة فوز دونالد ترامب، والذي وقع كالصاعقة على كل المسؤولين الذين كانوا، كالجميع، مطمئنين لفوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، مثله مثل كل مرشحي الرئاسة الأميركية، يستخدم ترامب عاصمة الدولة الفلسطينية مطية التزلف لرأس المال اليهودي ولدولة إسرائيل بوعد نقل السفارة إلى القدس، ثم يختفي هذا الوعد فور إغلاق الصناديق، لكن رجل المراهنات أفشل رهاننا نحن هذه المرة؛ ليعيد تأكيد أنه يعني ما يقول.
تلك أوقعتنا جميعاً، وأولنا القيادة الفلسطينية، في مأزق أكبر مما يتخيله أي من الفلسطينيين. ماذا لو فعلها هذا المصارع القادم لتجريف كل شيء بدءاً من الداخل الأميركي؟ وأيضاً من الواضح أنه سيطالنا جزء من هذا التجريف متعلق بكلمة السر في الكفاح الفلسطيني الممتد منذ عقود طويلة وهي القدس .. وإذا كان الأميركيون قد تفقدوا موقع السفارة في القدس، وإذا كانت أجهزة الأمن الإسرائيلية قد عقدت اجتماعاً؛ خلال الأسبوع الماضي؛ تحضيراً لمواجهة تداعيات وسيناريوهات العنف التي تتوقع اندلاعها؛ إثر نقل السفارة، بدا الفلسطينيون في حالة من الصدمة التي أسكتتهم عن تحضير سيناريوهات هذا العدوان الخطير.
ردة الفعل الفلسطينية باهتة، والرسائل الفلسطينية التي خرجت حتى اللحظة لا توازن حجم الجريمة المفترضة إذا وقعت، وهي جريمة تغلق كل الأبواب في وجه السياسة الفلسطينية المتبعة منذ عقود، وتجعل الخيارات الفلسطينية جميعها عاجزة في مواجهة انسداد، هو الحقيقة الوحيدة التي تتبدى أمامنا وأمام المسارات الأخيرة، سواء مسار السلام أو مسار الصدام، وهما ما تحققا دون معاكسة أي منهما للآخر: الأول من قبل السلطة في الضفة الغربية، والثاني من قبل حركة "حماس" في قطاع غزة.
واضح أن مسار التسوية الذي أغلقه نتنياهو، منذ ثلاثة أعوام، عندما قلب الطاولة في وجه جون كيري، كان ينتظر فوز ترامب لإعلان موته، وهو الرجل الأقرب للرواية الإسرائيلية، ليس فقط من خلال صهره اليهودي الذي عينه مسؤولاً عن ملف الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل أيضاً بالنظر إلى الطاقم الذي اختاره للسنوات الأربع القادمة، ليأتي تأكيد نقل السفارة إلى القدس كمسمار أخير في هذا المسار؛ لأن ذلك يعني إسدال الستار على أي مفاوضات تنتهي بحل الدولتين، أما مسار الصدام المسلح الذي تحقق في السنوات العشر الأخيرة بقطاع غزة، ممثلاً بثلاثة حروب طاحنة، سيتكفل به نائب الرئيس الجديد مايك بينس، الذي دافع عن إسرائيل مراراً في استخدامها للقوة المفرطة في حروبها التي شنتها ضد قطاع غزة، وبات من الواضح أن بينس وهو صاحب التجربة السياسية أكثر خبرة من رئيسه، خاصة فيما يخص القضايا الخارجية، وقد يفوضه الرئيس عديم المعرفة بما هو خارج الولايات المتحدة بإدارة تلك الملفات، ومنها ملف الصراع، ما يعني إطلاق يد إسرائيل ضد الفلسطينيين في القطاع الذي تحكمه حركة "حماس".
إذن نحن أمام انسدادات حقيقية، والمخيف هو أننا لا نرى القيادات الفلسطينية يتملكها شعور بأزمة اللحظة الراهنة، ولا نعرف إن كانت قد أعدت ما يكفي من السيناريوهات الواجب وضعها على الطاولة، وأغلب الظن أنها كعادة الأشياء، وإن كان هناك تصريح بسحب الاعتراف بإسرائيل كخيار قد تقدم عليه القيادة الفلسطينية في حال ذهبت إدارة ترامب نحو خيار الجحيم.
الحقيقة هي أن التهديد بسحب الاعتراف بحاجة إلى نقاش بعقل بارد، بعيداً عن الانفعال اللحظي، نقاش يأخذ بعين الاعتبار فاصل الزمن بين الاعتراف وسحبه، وكذلك حجم التغييرات التي طرأت على الداخل الإسرائيلي والانزياح نحو نظام سياسي هو الأكثر يمينية، فمن قال إن إسرائيل اليمينية الجديدة ما زالت بحاجة إلى اعتراف الفلسطينيين بهم؟ الحقيقة هي أن ذلك يمكن أن يشكل خشبة خلاص لليمين من مجتمع دولي ما زال يضغط باتجاه مفاوضات تشكل كابوساً بالنسبة لنتنياهو وتحالفه الاستيطاني المتطرف، فقد يحرره سحب الاعتراف مما يخشاه طوال الوقت وأدى إلى عزله دولياً.
لم يعد اليسار هو من يحكم إسرائيل، ذلك اليسار الذي كان شديد التوق لاعتراف فلسطيني بدولة إسرائيل كمدخل لشرعنتها أمام العالم، وتذكرة دخولها حين تعترف بها الضحية الأولى، وقد حصل، لكن اليمين الاستيطاني الذي بات يحكم يدرك أن هذا الاعتراف كان يشكل في حينه مدخلاً لمفاوضات تنتهي بالرحيل عن الضفة الغربية وفك المستوطنات، وهنا علينا النظر إذا كان ذلك مهماً لهم أم لا، وأمامنا تجربة حركة "حماس" التي لم تعترف وتشعر إسرائيل اليمين بأنها ليست ملزمة بشيء سياسي تجاهها وهذا جدير بالقراءة.
والأهم من ذلك هو أن الخيار الدبلوماسي الذي اتبع، خلال السنوات الماضية، كخيار وحيد بعد انغلاق مسار المفاوضات وقد حقق بعض الإنجازات، بات مهدداً مع وصول إدارة ترامب، وهو أمر ليس بحاجة إلى إثباتات إثر موقف حاد للإدارة الجديدة من قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بالاستيطان الشهر الماضي، وتغريدة الرئيس الأميركي الذي طلب من إسرائيل الصمود إلى حين تسلمه، ما يعني أننا أمام إدارة ستشكل غطاء كاملاً لإسرائيل في المؤسسات الدولية وستغلق أمامنا كل المنافذ. وأغلب الظن هو أن عالم المصالح الدولية سيكون أكثر استجابة للمطالب الأميركية في هذا الصدد، وليس من المغامرة القول: إننا سنشهد تراجعات في المواقف الأوروبية التي تطورت في السنوات الأخيرة.
وهنا السؤال: هل ما تحقق من إنجازات دبلوماسية على المستوى الدولي، واعتقدنا أنها تشكل اختراقات، كانت تمر من تحت عباءة إدارة أوباما التي وصلت إلى قناعة بأن نتنياهو وحكوماته عقبة في وجه التسوية؟ وهل كل حركتنا الدبلوماسية كانت تتم برضا أميركي؟ وهل فهمت أوروبا التي أفسحت لنا بعض الحركة وكذلك المؤسسات الدولية تلك الإيحاءة؟ أغلب الظن نعم، وهذا معناه أننا أمام انسداد آخر لآخر خيار لدينا، فما العمل إذن؟
ليس أمام الفلسطينيين سوى المراهنة على ثلاث مسائل: الأولى هي الوحدة التي حلت محلها مجموعة من الصراعات خلال السنوات الماضية، حين اعتقد كل منهم أنه لوحده قادر على حمل المشروع الوطني، متكئاً على بعض الوهم، وتلك الصراعات نخرت الجسد الفلسطيني، وقد آن الأوان لإنهائها، والثانية هي الاعتماد على الشعب الذي تم تغييبه خلال السنوات الماضية وقد لعب الأداء الإداري والأمني المتدني دوراً في تآكل الإرادة الشعبية، فالشعب في الضفة الغربية لم يعد مشاركاً في الشأن العام، ومظاهرات الجدار نموذج على ذلك، أما في قطاع غزة فهو يتعرض للقمع مجرد المطالبة بأبسط حقوقه.
أما المسألة الثالثة وهي ضرورة العودة للبعد العربي والجامعة العربية في مواجهة الولايات المتحدة واندفاع رئيسها، وهنا ربما تطرح مسألة فتور العلاقة مع مصر كدولة قادرة على أن تلعب دوراً في حماية القضية الفلسطينية في إطار مسؤوليتها التاريخية تلك.
الخطر الأميركي داهم، والأمر ليس بتلك السهولة، ولم يعد لترف الخلافات متسع للعبث؛ لأنه أصبح يطال القضية برمتها.