قلم رصاص : إصدار جديد للكاتبة شوقية منصور

قلم رصاص :  إصدار جديد للكاتبة شوقية منصور
حجم الخط

قلم! جَسَّ الطّبيبُ خافقي وقالَ لي: هلْ هُنا الأَلَمْ؟/ قُلتُ له : نعمْ/ فَشَقَّ بالمِشرطِ جَيْبَ مِعطفي وأخرجَ القلمْ!!

 

بهذه العبارات من قصيدة الشاعر أحمد مطر استهلت الكاتبة والإعلاميّة الكبيرة شوقيّة عروق منصور إصدارها الجديد "قلم ... رصاص"، الذي تستعرضُ به الوجع الإنسانيّ والوطنيّ في مقالاتها الجريئة، والذي صدر عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر في رام الله، وشوقيّات للنشر في طيرة المثلث الفلسطينيّ المحتلّ.

 

تضمّن الكتاب 136 صفحة من الحجم المتوسّط، وما بين مقال "كلب السفير سفير" وبين مقال "كبريت أبو الشوارب" تعدّدت العناوين الجريئة في كتابات شوقيّة عروق، والمتمرّدة على واقعٍ تشوبه مُنغّصات السياسات العبثيّة، وتتوالى العناوين: لك يوم يا ظالم، وما أتعس الوطن حين نصبح أشجارًا للقطع، وطبّاخ الرئيس، طبّاخ النملة، من مؤخّرة الدجاجة يُخرجون قنابل مسيلة للدموع، ونتكلم من داخل برميل قمامة، ومقالات أخرى تحمل ذات الروحيّة المتهكّمة الساخرة، والرافضة لكافّة أشكال الفساد والتسلق والظلم.

 

الجزء الأوّل من سلسلة إصدارات "قلم ... رصاص" التي تعمل الإعلاميّة شوقيّة عروق منصور على إصدارها، يؤطّرهُ غلاف مكوّنٌ من جزءين؛ لوحة للفنان الشهيد ناجي العلي، بريشته التي وقفت ضدّ كافّة أشكال التخاذل والخنوع، وبتوظيف مضامين مقالاتها الجميلة الجريئة، بسيميائيّة رمزيّة موحِية وإخراج فنّيّ أكثر من رائع، للغة الحوار التي شدّدت عليها الكاتبة في نقدها اللاذع وعناوينها الصاخبة التي تستصرخ بها الضمير الإنسانيّ، وقد صمّم المخرج الفنّيّ بشار جمال صورة الغلاف، وأخرجه بدلالاته الصارخة.

 

لغة كتاب "قلم ... رصاص" رشيقة وواضحة وسلِسة، وطرح المواضيع مُشوّق للقارئ، يُبكيكَ ويُضحكك بلغته البسيطة المتهكّمة، وقد استندت في كثير منها على الأمثال الشعبيّة ومقولات تراثيّة، والكاتبة شوقيّة عروق جعلت مقالاتها المُواكبة للحياة اليوميّة وأحداثها حقلَ بحثٍ، يستحقّ القراءة والدراسة والمتابعة، والتوقّف للحظات، وكأن الكاتبة شوقيّة تصوّر الحاضرَ بعينِها، وتستشرفُ المستقبلَ برؤية مغايرة، فلا تُجمّلُ ولا تكابر ولا تتغاضى عن أيّة شاردة أو واردة، بل تلتقطها وهي طائرة، وتُجيّرها لقلمها السيّال.

 

أجزل التهاني والمباركات نوجّهها للكاتبة شوقية عروق منصور بهذا المنجز، ونبارك لأنفسنا معشر الكتاب والأدباء والمثقفين والقرّاء هذا الزخم في النقد المباشر، لكلّ ما يُهدّد مشروعنا الوطنيّ والثقافيّ والإنسانيّ في فلسطين، وفي كافة العواصم العربيّة بانتظار القادم لكاتبة عربيّة، قادرة على زلزلة أوسع الفضائيّات العربيّة انتشارًا بقلم الرصاص الذي حقنه حنظلة بمورفين الوطن.

 

الكاتبة شوقية عروق تضع النقاط فوق الحروف في "80 مليون إحساس" فتقول: "أعذب الشعر أكذبه، فالمبالغة أو الكذب المتواطئ مع المشاعر الجيّاشة لا بدّ أن يَمرَّ داخل قنوات الكلمات، ويصنع من حصى الخيال سدودًا من جماليّات الحروف، وتبقى القصائد الشعريّة مجالًا للمتعة عبر التاريخ، حتّى لو كان الحبّ والبطولة والكبرياء والعنفوان وغيرها من مفردات وأعمدة الشعر العربيّ منقوعة في ماء الذهب المزيّف".

 

وتتابع: "الغناء العربيّ جزءٌ لا يتجزّأ من عالم المبالغة الشعريّة المندلقة على سطح اللغة العربيّة، والتي تيتّمت على أيدي المُندَسّين على كتابة الأغاني، في الوصف المُترهّل العاجز وتهَدُّل المشاعر المزيّفة المَقيتة، وإدخال المستمِع العربيّ إلى دوّامات من الرخص التعبيريّ الذي يمسح بلاط الحُبّ دائمًا بخِرَقٍ من آهاتٍ مُتوجّعة مريضة، لا ترقى إلى لمس حقيقة الأحاسيس العميقة، ونادرًا هي الأغاني الحديثة التي رفعت مستوى عُمق الحُبّ، فالكذب الأبيض بحسب ما يُقال، الذي وقعَ فيه كُتّاب كلمات الأغاني العربيّة، حوّلوا المبالغة اللفظيّة إلى عالم من الكرتون ينهارُ بسرعة، وإلى مشروعٍ للكذب والتضليل الإعلاميّ، وإسقاط المواطن العربيّ في شبكاتٍ من الخداع الإحساسيّ، ومع تكاثر الفضائيّات العربيّة المُتخصّصة في الغناء، والتي تتناسل بشكل مثير، ولا نعرف مِن أين يأتون بالأموال، كأنّ هناك استراتيجيّة لتحويل شبابنا من درجات مناضلين وفدائيّين إلى درجات طبّالين وزمّارين".

 

ولا تسلم السياسة من طلقات مسدسها القلم فتقول: "إنّ الغناء السياسيّ في أيّ عصر هو وليد الواقع والنظام، هو ابن الحرمان والفقر والجوع والثورة والظلم وغياب العدالة، وهو ابن الشوارع والحارات والأزقّة، وابن الزنازين والسجون وساحات الإعدام، وهو الضوء الذي يكشف الفساد، ويرمي بجثث الزعماء إلى ما وراء النكات والمحاسبة والاستخفاف، قبل أن يحاسبهم التاريخ وأوراق المؤرّخين العمياء. الأغنية السياسيّة العربيّة التي تتربّع الآن على حنجرة شعبان عبد الرحيم (شعبولا)، وغيره من مطربي المواسم العابرين في كلام عابر ولحن عابر، عذرًا من فيروز ومرسيل خليفة، وماجدة الرّومي، وجوليا بطرس، لأنّ هؤلاء الّذين يُناطحون الأغنيات الوطنيّة بسذاجة، يُشوّهون المسيرة الغنائيّة السياسيّة، والأخطر من ذلك، هؤلاء الذين أصبحت الأغنية الوطنيّة عندهم التمجيد للحاكم والنظام، يستغلّها الحاكم في قمع شعبه أو تبرير سياسته، يَنشرها ويَبثها عبر فضائيّاته التي وظيفتها تقديس الحاكم، ولو بقوّة الأغاني والأهازيج والزغاريد".

 

وتسخر شوقيّة عروق من الذين: "دخلوا ميدان الأغنية الوطنيّة (هيفاء وهبي)، ليَصدق المَثل الشعبيّ القائل: (ما ضلّ غيرك يا ممعوط الذنب). هيفاء تُغنّي لمصر ردًّا على الجزائر التي (حاولت إهانة كرامة مصر حسب قوْل المصريّين)، وأيضًا على الذين يتطاولون على هذه الدولة العظيمة! هيفاء وهبي تصول وتجول في أغنيتها المرافقة لصور (من القاهرة اللي فوق) فيلات وشوارع عريضة نظيفة، وأناس في غاية الشياكة والفرح، حتّى بائع الخبز يضحك فرحًا بالهدوء والاستقرار، (بدون طوابير الخبز التي يذهب ضحيّتها يوميّا قتلى)؟ هيفاء تؤكّد في أغنيتها (80 مليون إحساس)، أي عدد سكان مصر، جميعهم يعيشون في رضا وسعادة، دون بطالة وعشوائيّات وفساد وهجرة الشباب وفقر.. الخ.. لم تخرج صورة واحدة تشير إلى الواقع المصريّ، حتّى ازدحام الشوارع اختفى، وحلّ محلّه هيفاء وهي تركض وتسير بخطوات مُثيرة في الشوارع شبه الخالية، و(80 مليون إحساس مصريّ) يبصمون مع هيفاء عبر تعاريج جسدها وتطاير شعرها ونظراتها الأنثويّة، أنّ جميعهم يغرقون في العسل (المْباركي)، وأنّ دولتهم هي الدولة الوحيدة التي تتمتّع بالرخاء في المنطقة والعالم! هيفاء وهبي تتجاسر وتدخل المنطقة المُحرّمة، ألا وهي (الأغنية الوطنيّة)، وتريد أن تقنعنا أنّ مصر أكبر من الجميع، فتقول: (انت حلوة في كلّ حاجة/ مش محتاجة لرأي حدّ)! 80 مليون إحساس هو عنوان المرحلة التي تمرّ بها الأغنية السياسيّة، رحم الله (عبد الحليم حافظ) الذي غنّى زمن الزخم السياسيّ والفوران الثوريّ، مُوجّهًا أغنيته للزعيم جمال عبد الناصر، (طلب تلاقي 30 مليون فدائيّ)، هذا هو الفرق بين المدّ القوميّ الثوريّ الذي كان، وبين المدّ الإحباطيّ الذي نعيشه الآن".

 

ونختتم بما قالته الكاتبة شوقية عروق في مقالها الاخير"الحذاء الذي لم يتمزق وعنق الصبيّ المذبوح": لقد رقصنا وخرجنا إلى الشوارع فرحين مُهلّلين لفشل الانقلاب التركيّ، وخروج أردوغان منتصرًا على معارضيه، وسجّلنا الكلمات المؤيّدة له بحروف من ذهب، ولكن منظر الصبيّ المذبوح لم يدفعنا للتحرّك، ولم نخرج إلى الشوارع عندما يُقتل المئات في انفجارات وأحزمة ناسفة وتفجير المساجد والأسواق والبيوت والمدارس، لم نخرج إلى التظاهر استنكارًا للحرب المسعورة على اليمن ومقتل أطفالها، كأنّ اليمن خارج الكرة الأرضيّة، وكذلك العراق الجريح، وليبيا المُستباحة، أمّا سوريا فقد كان النظام السوريّ هو شيطانهم، وتجاهلوا الشياطين الذين تزيّنوا بشعارات وأعلام وغطسوا في الدم والدمار حتى الرُّكَب!