مشكلة العقل الانفعالي أنه يهتم بالنتيجة فقط، ويتجاهل السياقات الموضوعية التي أوجدتها، يتذكر الاختبار الأخير المطبوع في ذاكرته، وينسى كل الاختبارات السابقة، يعزل السبب عن النتيجة، وأحيانا لا يفرق بينهما.. مثلا، أحد المناهضين المتحمسين للإجهاض، ومن أجل كسب التأييد لفكرته قال: "بعد انتشار الأسلحة النووية زادت معدلات الإجهاض بشكل كبير.."، عملياً، ما يقوله صحيح، بمعنى أنه بعد النصف الثاني من القرن العشرين (بعد انتشار الأسلحة النووية) زادت معدلات الإجهاض في مختلف دول العالم، ولكن لا علاقة بين الموضوعين، ولكنه يعلم أن الرأي العام ضد انتشار الأسلحة النووية، فاستغل هذه النقطة وربط فكرته بها لترويجها.. وبالمثل، الناقمون على السلطة ومؤيدوها، صاغوا نظرياتهم وتوصلوا لاستنتاجاتهم بنفس المبدأ.. أي روجوا لأفكارهم مستخدمين نقطة قدوم السلطة كنقطة تحول يمكن البناء عليها بكل خفة.
في المقال السابق استعرضنا بإيجاز الطريقة السلبية للإدارة المدنية الاسرائيلية في إدارة الأراضي المحتلة، وكيف أدى ذلك لبنية تحتية هزيلة، ولمنع وجود قاعدة (ولو هشة) لاقتصاد وطني، ولغياب كل أشكال التنمية، ولانسداد الآفاق تماما أمام الشعب الفلسطيني (دون الحديث عن القمع والتنكيل والقتل والهدم والاعتقالات..)، وهذا ليس غريبا، بل متوقع من الاحتلال..
ولكن، إلى جانب الممارسات الإسرائيلية، كانت أيضا آنذاك معوقات ذاتية، وممارسات فلسطينية خاطئة، زادت الأوضاع بؤسا، وخاصة الطريقة الارتجالية في إدارة الصراع، والفوضى الأمنية، وتضييق الحياة على الناس، بكثرة الإضرابات، وتوجيه النضال نحو المهابط الثورية (التركيز على الجبهة الداخلية، تحت ذريعة مقاومة العملاء، بكل ما صاحب ذلك من تعسف وفوضى)، ومنع أي شكل للاحتفاء بالحياة أو للفرح، أو إقامة الحفلات، بما في ذلك الأعراس.
باختصار، كانت الأوضاع سيئة على مختلف الصعد، ربما كان أصحاب المصالح، وبعض الأغنياء وحدهم من يفضل عودة تلك الأيام، ربما لأنهم لم يكونوا جزءًا من معاناة الناس، أو لقصور في رؤيتهم المنطلقة من اعتبارات أنانية ضيقة وآنية.
وهذا لا يقلل من أهمية الدور الوطني الذي لعبته النخب المثقفة ومنظمات المجتمع المدني في تلك المرحلة، ودور فصائل المقاومة، لكن المجتمع المدني بكل تعبيراته، والفصائل الوطنية بكل توجهاتها لا تشكل بديلا عن الحكومة، إذْ إن لكل طرف منها دوراً مستقلاً ومختلفاً عن الآخر.. الفصائل الوطنية عندما انطلقت لم يكن من بين أهدافها خدمة احتياجات المواطنين اليومية، كان هدفها تصعيد النضال العسكري والجماهيري ضد الاحتلال.. وعندما تأسست منظمة التحرير، كان هدفها تمثيل الشعب الفلسطيني سياسيا، وقيادة كفاحه الوطني.. لكن المجتمع الفلسطيني، شأنه شأن أي مجتمع إنساني، يحتاج لكيان سياسي قانوني ينظم أمور حياته اليومية، ويلبي احتياجاته.. ثمة قضايا كثيرة وملحة لا يستطيع أي مجتمع إنساني أن يعيش دون أن ينظمها، مثل الأمن الداخلي، القضاء، التعليم، الصحة، الاقتصاد، التجارة، توفير الخدمات، رعاية المصالح الحياتية المختلفة والمعقدة... في الحالة الفلسطينية كانت إسرائيل هي المسؤولة عن هذا الجانب بوصفها سلطة احتلال، وقد بينّا كيف أدارت هذا الملف بأسوأ صورة، وبالحد الذي بالكاد يبقي على حياة الناس، وبالشكل الذي يخدم توجهاتها الإستراتيجية.. فمثلا سهّلت دخول العمال لمدنها، لأنها كانت تسعى لإشغالهم عن بناء وزراعة بلدهم، ولأنها كانت تخطط لاحتوائهم وكيِّ وعيهم (بصدمة النموذج الإسرائيلي)، ولأنها عمالة رخيصة.. بعد ذلك تغيرت مخططاتها.. قد تكون إسرائيل وفرت بذلك حلولا عملية للشباب، لكنها حلول فردية، تصب في مصلحتها أولا، وتتعارض مع المصلحة الفلسطينية ثانيا.
عندما كانت منظمة التحرير في الخارج، مارست إلى جانب دورها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وقائدة لكفاحه الوطني... مارست دورا آخر لا يقل أهمية، هو رعاية مصالح الفلسطينيين، وإدارة شأنهم اليومي، سواء داخل الوطن، أو في مخيمات الشتات.. قامت بهذا الدور المركب والمعقد من منطلق إيمانها بأن المناطق التي تتولى مسؤوليتها، يجب ألا تتحول إلى أحزمة بؤس وفقر ومشاكل اجتماعية، بحجة المقاومة، ومتطلباتها.. وأن هناك احتياجات أساسية للناس لا يجوز تجاهلها، بذريعة التضحية..
وعندما تأسست السلطة الوطنية، اعتبرتها محطة نضالية في طريق التحرر والاستقلال، ونواة للدولة الفلسطينية.. فسعت أولاً لتولي مسؤولية الشعب الفلسطيني من خلال السلطة بدلاً من الاحتلال، لاعتبارات أمنية وسياسية، ولأنه ثمة فرق كبير بين تولّي الإسرائيلي مسؤولية المجتمع ومتطلباته الملحة، وبين تولي الفلسطيني ذلك.. وسعت للمزاوجة بين مساري الكفاح والبناء.. هذا المبدأ بحد ذاته نبيل ومشروع ومطلوب، وهو امتداد للمسار السابق، ويشكل تحدياً بالغ الصعوبة.. المشكلة أن مسار تطبيقه لم يكن بالشكل الأمثل، بل شابه الكثير من الأخطاء والخطايا.. (هناك الكثير من الدراسات التي قيّمت التجربة برمتها).
لا شك أن قدوم السلطة أحدث تغيرا جذريا في بنية المجتمع الفلسطيني، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.. وبطبيعة الحال ليست كل هذه التغيرات إيجابية، وليست شراً مطلقا (كما يطرح البعض).. ومثلما هنالك إنجازات توجد إخفاقات.. على المستوى السياسي تم انتزاع اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية، والحفاظ على القضية الفلسطينية وسط تقلبات عالمية جذرية ضاع في طياتها الكثير من القضايا العادلة، ودعم وتثبيت الوجود الفلسطيني في الداخل، ورفده بمئات آلاف الأسر الفلسطينية التي عادت من منفاها.. في المقابل تم تهميش فلسطينيي الشتات، وإضعاف دور المنظمة.. (فضلا عن الانقسام).. على المستويات الأخرى، وفيما يتعلق بالحياة اليومية للفلسطينيين، ثمة إنجازات كثيرة، يقابلها أخطاء كبيرة.. وفي كل الأحوال تبقى الحاجة ملحة لوجود كيان سياسي يمثل الفلسطينيين وينظم حياتهم، ويقود كفاحهم الوطني، دونه يتحول الشعب إلى عشائر وأقليات وقبائل متناحرة، ويصبح كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا..
من المهم إدراك أن الأهداف الكبرى في عالم السياسة الواقعي لم تتحقق في أي مكان من العالم بالشكل الأمثل، ولا بالطريقة الأسهل.. إذا أردنا التحرر والاستقلال، يمكن أن نستغني عن أشواقنا لتلك الأيام التي كان بوسع الشبان أن يصلوا بسياراتهم إلى "تل أبيب" لتمضية سهرة ممتعة هناك.. ويمكن أن نستغني عن "متعة" جبنة العيمك وعصير التبوزينا.. وأن ندرك أن مسار حركة التاريخ دوماً للأمام.. وفي طريقه تقع الأخطاء، وتقدَّم التضحيات.. المهم أن نرسم مساراً صحيحاً، وأن يعرف كل فرد دوره فيه، وأن يمارسه فعليا، بدلاً من الاكتفاء بالنقد والشتم وتقديم النصائح.