لا شك أن قدوم دونالد ترامب رئيسا أميركيا يعلن كل هذا الانحياز الأكثر سفورا من أي وقت سابق للمشروع الاستيطاني التوسعي الإسرائيلي، قد طرح تحدياً على الفلسطينيين، والقيادة الفلسطينية التي شكلت، بالفعل، لجان عمل خاصة لتدارس سبل التصدي لهذه المرحلة الجديدة. وبينما تكون الفكرة التقليدية في عالم العلاقات الدولية هي البحث عن حليف بديل موازٍ، أو ما يمكن تسميته "ترامب فلسطيني"، فالواقع أنّ "ترامب الفلسطيني" لم يكن موجوداً يوماً على شكل حليف استراتيجي، ولكنه وجد دائماً عبر تبني مفهوم "اللاتماثل" (Asymmetric) في الصراعات الدولية.
من دون التعمق في مواقف وسياسات ترامب، وتعيينه سفراء ومبعوثين لمعالجة الصراع الفلسطيني من الصهاينة الإسرائيليين أنفسهم، يمتلكون بيوتا في القدس، كمثل السفير الجديد لإسرائيل ديفيد فريدمان، الذي قرر أن يسكن في شقة يمتلكها في القدس، ونقل إليها بالفعل ما يحتاجه أثناء استقراره في عمله الجديد، قبل أن يعين رسمياً من قبل الكونغرس، مؤكدا على تطبيق وعد نقل السفارة إلى القدس؛ أو تعيين ترامب ناشطا في الحركة الاستيطانية، هو جاسون غرينبلات، مسؤولا عن المفاوضات في العالم (الكثير من ملفات التفاوض) بما فيها الفلسطينية-الإسرائيلية، وهو كما جاء في وسائل إعلام أميركية عدة ورئيسة، "سبق له العمل حارسا في مستوطنة في الضفة الغربية المحتلة مسلحاً ببندقية M16"؛ من دون الغوص في السياسات المحتملة لترامب، فإنّ جميع المؤشرات تثير القلق.
الواقع أن الفلسطينيين لم يمتلكوا في أي يوم حليفا استراتيجيا دائما، يدعمهم بما يوازن الدعم الأميركي المطلق وغير المشروط للإسرائيليين؛ لم يكن الاتحاد السوفياتي يوماً كذلك، ولم يكن حتى الرئيس المصري الأكثر ثورية وعروبيةً، جمال عبدالناصر كذلك. وكان هناك دائماً دعم نسبي، ومقادير من التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي لصالح طرف ضد آخر، أو لصالح أجندات إقليمية تخص هذا النظام العربي أو ذاك.
ما اكتشفه الفلسطينيون منذ منتصف ستينيات القرن الماضي تقريبا، أنّ الاعتماد على ذواتهم هو الأمر الممكن، وهذا هو الثابت الوحيد، أما تحالفاتهم الدولية والعالمية والعربية فمتغيرة ومتلونة، بحسب المرحلة. بكلمات أخرى، لا يوجد حليف استراتيجي للفلسطينيين سوى أنفسهم، و"ترامب الفلسطيني" هو العامل الفلسطيني الذاتي المستقل. وما يحتاجونه هو أن يجدوا أشخاصا قادرين على مواجهة أمثال فريدمان وغرينبلات، من الفلسطينيين وغيرهم. مع السعي لأوسع قاعدة حلفاء ومؤازرين دوليين وعرب، من دون توقع حليف استراتيجي دائم يقدّم الدعم بلا حدود ومن دون شروط.
تُجسّد الثورة المسلحة، أو جسّدَت في الماضي، فكرة "الحرب اللامتماثلة" سالفة الذكر، حيث تستطيع قوة لا تمتلك القدرات العسكرية التقليدية والنووية الكبرى الوقوف في وجه قوى تمتلكها، بفرض تكتيكات شعبية وميدانية غير نظامية؛ مثل حرب العصابات، والتمرد والعصيان والمقاومة بأنواعها. ومع التسليم بأن المضي بتكتيكات المقاومة المسلحة لم يعد متاحاً أو مناسبا ربما الآن، فإن تبني مفهوم المواجهة التي تدعم الجهد السياسي أمر رئيس. وبالتالي فإنّ تبني خوض "المواجهة اللامتماثلة" دبلوماسياً أمر رئيس، وذلك عبر تبني وتفعيل سياسات الدبلوماسية الشعبية، والقوة الناعمة والذكية. وهذا يتطلب إعادة إطلاق وتفعيل أطر العمل الفلسطيني، بدءا من الاتحادات الطلابية والشعبية والمهنية عالميا، وصولا إلى تكوين كوادر سفراء يحملون أيديولوجيا وتحديا يوازي ويواجه أمثال فريدمان وغرينبلات. وإعادة تأهيل مراكز البحث، والجامعات، وووسائل الإعلام الفلسطينية.
منذ ما قبل تشكيل السلطة الفلسطينية، لا يؤدي المجلس الوطني الفلسطيني وظائفه ولا يجري تجديده. والاتحادات المهنية والشعبية وُضعت على الرف، وصارت كيانات شكلية بلا فعل ميداني، ولا تجرى فيها انتخابات، وذلك بذرائع واهية. والمجلس الوطني وهذه الاتحادات هي القناة والأطر التي يمكن أن تخوض المواجهة اللامتماثلة سياسيا ودبلوماسيا عالميا، والتي تساعد في حشد الدعم العربي بكل قوة.
أن تدخل الكفاءات من أكاديميين، وطلبة، ورجال أعمال، وحرفيين، وغيرهم المجلس الوطني الفلسطيني، ليكونوا سفراء لقضيتهم في العواصم والمدن التي تشتتوا فيها، وليعملوا بتنسيق تام مع القوى المناصرة للحق الفلسطيني للضغط على الحكومات، بالتوازي مع إصلاح باقي مؤسسات العمل الفلسطيني، هو ما يمكن أن يشكل "ترامب فلسطينيا" حقيقيا، ومواجهة "لامتماثلة" فاعلة.
عن الغد الاردنية