يصعب على أكثرية المراقبين توقع السياسة التي سينتهجها الرئيس الأميركي الجديد في الشرق الأوسط عموماً وحول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحديداً، وذلك لأسباب عدة لعلّ من أهمها:
• ضبابية المساحة الفاصلة بين ترامب "الفكري والثقافي" وبين ترامب البرغماتي والعملي.
فبين الأيديولوجيا والسوق هناك دائماً مساحة غامضة، وبين ثقافة الأعمال وثقافة الأفكار هناك ثقافة ملتبسة ناتجة عن تزاوج لا يمكن رصد وتتبع نتائجها بأي درجات من اليقين.
• إضافة إلى ذلك فإن هناك ما هو ضبابي بصورة أكبر حول كوابح المؤسساتية الأميركية لاندفاعات وانفعالات شخصية مثل شخصية السيد ترامب.
فعلى الرغم من كل ما قيل وما زال يُقال حول مجيء السيد ترامب (من خارج هذه المؤسساتية) بمعنى (منظومة المؤسسات العميقة)، إلاّ أن حدود كبح هذه المنظومة للاندفاعات "الترامبية" ليست واضحة لا في شقها القانوني ولا في شقها الإجراءاتي في قضايا قد تكون على أهمية خاصة بالنسبة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحتى بالنسبة لعموم هموم منطقة الإقليم.
• الغموض الثالث يتمثل في "الدين السياسي" للسيد ترامب. فبحدود ما نعلم ونعرف فإن غالبية كبيرة من أصوات اليهود في الولايات المتحدة الأميركية قد ذهبت إلى مرشحة الحزب الديمقراطي ـ السيدة كلينتون ـ وبنفس الحدود فإن "الايباك" قد انحاز لها حتى أن هناك إحصاءات "تؤكد" أن أكثر من 85% من أصوات اليهود قد صُبّت لصالح السيدة كليتون.
فمن هذه الزاوية تحديداً لا يواجه السيد ترامب مشكلة تسديد مثل هذا الدَّين وهو ليس بحاجة حتى إلى ولاء مجلسَي النواب والشيوخ لقراراته حيال الانحياز الخاص والتام لإسرائيل، لأنه سيحصل على الموافقة الآلية بدون أي تردد لأن الغالبية والغالبية الساحقة في هذين المجلسين مؤمّنة بدون عناء.
لهذا كله ولأسباب أخرى كثيرة فإن معظم المراقبين ما زالوا يترددون في توقعاتهم حيال المنهج الذي سيحكم مواقف السيّد ترامب من قضايا المنطقة عموماً ومن القضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
ومع ذلك، فإن توضيح بعض الحقائق ربما يساعد في تحديد معالم أولية لهذا النهج.
علينا أن نلاحظ أولاً ـ كما أرى ـ أن السيد ترامب من الناحية الأيديولوجية ينتمي إلى أكثر الأفكار يمينية ورجعية في مصفوفات الفكر الأميركي، وهو بالتحديد ينتمي من الناحية الفكرية إلى اليمين القومي العنصري المتطرف والمتهوّر إلى درجة الانفلات، بغض النظر عن كل محاولته المتكررة للانتقال بين صفوف الديمقراطيين والجمهوريين على مدار عدة عقود مضت، حيث لم تكن هذه الانتقالات خياراً فكرياً بقدر ما كانت ـ وما زالت ـ انتقالات "انتخابية" برغماتية لها علاقة جوهرية بالفرص والإمكانيات، وهو أكثر رجعية حتى من بعض عتاة المحافظين الجدد وربما أن هؤلاء يعتبرون حمائم سلام بالنسبة لأفكاره الحقيقية.
الدعوة للانكفاء والانعزالية نحو (أميركا أولاً) ليست مجرد خيار اقتصادي ـ وهو خيار اقتصادي على كل حال ـ لكنه هو التعبير عن "الآمال" بالوصول إلى درجة القوة العظيمة التي تستطيع أن تخضع "الجميع" من على قاعدة هذه "القوة" وهذه "العظمة".
كما أن الدعوة "للتسامح والتصالح" مع روسيا هو بالأساس سلوك ناجم عن عدم منافسة روسيا للولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي، كما أن محاولة استعداء الصين تحديداً هي شعور ناجم بالذات عن "الخطر" الذي تمثله الصين على (اقتصاد القوة والإخضاع للولايات المتحدة).
والحرب على الإرهاب ستأخذ طابعاً "عنصرياً" لأن ترامب يحاول "أسلمة" الإرهاب الدولي ويحاول بصورة خاصة أو ضمنية أن يربط ما بين الارهاب والإسلام، أو ما بين الارهاب والمسلم.
إن ما يود أن يصل إليه ترامب (في معركة مواجهة الارهاب) هو التعميم التالي:
ليس كل مسلم إرهابياً، ولكن كل إرهابي هو مسلم. هذه هي الرسالة الحقيقية والهدف الخبيث من وراء الحديث عن "الإرهاب الإسلامي".
لكن المؤشرات حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبحت واضحة، ولم تعد هناك مجالات كبيرة للتكهن. ترامب والترامبية هي معاداة سافرة ومكشوفة مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وأهدافه وتطلعاته، وتحالف أيديولوجي عميق مع اليمين القومي الديني المتطرف في إسرائيل.
يكفي هنا أن نشير الى موقف ترامب من قرار مجلس الأمن ومن "عدم" إدانة الاستيطان وبصورة واضحة بل وتأييد هذا الاستيطان.
أما تأجيل نقل السفارة فهو موقف مؤقت بانتظار "قياس" ردود الأفعال ليس إلاّ.
كل ما سيطرحه علينا ترامب "لحلّ" الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو حكم ذاتي مقلّص على أقل من 50% من الضفة ليس أكثر ولكن ربما أقل.
ترامب والترامبية ليست سوى نسخة غير منقّحة من الليبرالية الجديدة المتوحشة. نسخة فجّة بدون رتوش وبدون مونتاج.