حتى لا نزور قبر هديل

9ee22722_03083836691480003861021064613553
حجم الخط

في كثير من الأحيان، لا يكون موت أو مقتل أو استشهاد شخص ذا أثر حتى تقام جنازته.
تقول إعلامية شهدت في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 جنازة مهند الحلبي، الذي كانت عملية المقاومة التي قام بها من شرارات الهبة آنذاك، إنها همست لنفسها في الجنازة: يا إلهي كم مهندا سيتبع هذه المسيرة؟ في إشارة لعظم التفاعل مع الحدث.
يكتب طالب جامعة أعد بحثاً عن موقف زملائه من المقاومة، أن أحدهم قال له: "حُلمي أن يتم زفافي في جامعتي؛ مشهد زفة ساجي درويش (زميلهم الطالب) لا يخرج من مخيلتي".
مشهدان يجب أن يصيبانا بالرعب. 
في علم الأنثروبولوجيا نظرية تقول إن الناس كانوا في الماضي يقومون بطقس استسقاء خاص؛ يدقون أبواب بيوت القرية، فتخرج سيدة البيت، تسأل الموكب ماذا تريدون. فيردون ضمن نغم معين أنهم يريدون شرب الماء. وعندما تأتي بكوب الماء، يرشقونه للأعلى، لعل الماء وهو عائد يجتذب المطر. وكما قال الأستاذ الذي شرح لنا النظرية، فهذا إيمانٌ بأنّ الشيء يأتي بقرينه أو مثله. وللأسف، لا شيء يُصدّق هذه المقولة كما "الدم"؛ فالدم يستجلب الدم.
وأنت تشهد صور جنازة الشهيد يعقوب أبو القيعان، في النقب جنوب فلسطين، والذي قُتل على يد الشرطة الإسرائيلية أثناء عملية هدم بيوت قرية "أم الحيران" البدوية من أجل إقامة مستوطنة تسمى "حيران" لمهاجرين يهود، تدرك أنّ ما بعد هذه الجنازة قد لا يكون كما قبلها.
تقول زوجته رابعة أبو القيعان للإعلام إنّ زوجها "قرّر ترك أم الحيران كي لا يرى مشاهد الهدم. قال لي: لا أريد رؤية الهدم، لا أريد أن أرى تعبي يهدم، سأذهب إلى أمي في حورة لكي لا أراهم. وعند الصباح أخذ بسيارته بعض الحاجيات وخرج لأمه. كنت وأبنائي نشاهد عندما أطلقوا النار عليه. صرخ ابني: أبوي، أبوي. قلت له: لا ليس أبوك. قام الجنود بدفعنا بسلاح بندقية "العوزي" إلى الشارع، ووجهوا أسلحتهم باتجاهنا. سرنا بعيدا حتى وصلنا، وسألنا جنديا عن زوجي، فلم نسمع إجابة. وحين وصلنا عرفنا أنه استُشهد".
كان أبو القيعان أستاذا منذ 19 عاما، يحمل لقبين علميين، ودرس اللغة الألمانية بأمل إتمام دراسته في ألمانيا. وكان يحلم أن يدرس أبناؤه الطب والرياضيات. 
كانت هديل عواد تحلم أيضاً بدراسة الطب.
من بين مشاهد المقاومة الفلسطينية التي لا يجب أن تنسى، مشهد هديل في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. كم كانت نحيلة وهشّة، وهي ابنة 14 عاماً، وترتدي "مريول" المدرسة، وتحمل مقصاً بائساً تحاول أن تطعن به إسرائيليا، فعاجلها الإسرائيليون بالرصاص وقتلوها، وأصابوا قريبتها نورهان. يومها، ولأنّ أمها كانت قد فوجئت بخبر غياب الفتاتين عن المدرسة، عرفت عند سماعها خبر العملية أنّها ابنتها، تنتقم لشقيقها الذي قتله الإسرائيليون قبل عامين. كان صديقها، وأصبحت تزور قبره باستمرار.
بقدر ما تعكس عملية هديل إصرار الشعب على حقه وكرامته وحياته، بقدر ما تشكل إدانة للفصائل و"القيادات"؛ لأنّ فتاة لم تبدأ حياتها بعد أن اضطرت إلى فعل ما فعلت عندما رأت صمت من يجب ألا يصمت.
تقول زوجة أبو القيعان: أفكر لغاية اليوم بما جرى وكأنه فيلم، وهو أكثر بكثير مما يحصل في غزة.
في حالة "صحيّة"، إن كان هناك شيء يُسمى كذلك في مواجهة الاحتلال، تكون جنازة الأستاذ يعقوب بداية وعي سياسي وحركة منظمة في النقب لرفض الأمر الواقع الاحتلالي. في حالة "صحية" في مخيم قلنديا وباقي أماكن العمل الفلسطيني، كانت هديل ستجد في عقب استشهاد أخيها أطراً شعبية وتنظيمية وفصائلية، تضمها إليها، وتعدها معرفياً وروحياً وسياسياً وشخصياً ونضالياً وثورياً لتواجه الاحتلال كما يجب أن تكون المواجهة.
عندما توجد ثورة وتنظيمات وقوى وقيادات، يتحول فائض الغضب في الجنازات إلى طاقة فعل شعبي ونضالي منظمين، وعارمين. وفي غياب ذلك؛ إما أن يُنسى الشهداء "كأنهم لم يكونوا"، أو يفور الغضب كما حدث في حالة هديل ومن هم مثلها.
في حالة الثورة تزور هديل قبر محمود، وتزور رابعة قبر يعقوب، وتحملان وردة وتخبرانهما أين وصل درب الحرية.
في غياب الثورة نزور قبر هديل.