العالم يتغير بتسارع لم نعد قادرين على اللحاق بعجلاته... وأصبحنا ننظر بدهشة إلى هذه التحولات الدراماتيكية التي تؤثر على القضية الفلسطينية سلباً أكثر مما نتوقع.
بدأ نظام عالمي جديد في التبلور، تبدو ملامحه أكثر من واضحة، مع أن عمره الزمني لا يتعدّى أياماً معدودة... هذا النظام جاء مع اليوم الأول الذي دخل فيه ترامب البيت الأبيض، معلناً انقلابات داخلية وخارجية لم يعد العالم قادراً على استيعابها.
نحن الفلسطينيين، نالنا جزء من هذا التغيير، وننتظر المزيد منه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
بدأت الغيوم الترامبية السوداء تسقط قرارات سياسية بالغة الخطورة على القضية الفلسطينية، تمثلت في معاقبة المنظمات الأممية التي ستقبل عضوية فلسطين فيها، من خلال وقف تمويل هذه المنظمات والمؤسسات، بمعنى خنقها وإجبارها على التفكير ملياً قبل الموافقة على هذا القبول. إضافة إلى الصمت الأميركي المطبق حول البناء الاستيطاني المكثف خلال أسبوع الماضي.
وزير الخارجية الفلسطيني الدكتور رياض المالكي أعلن قبل يومين أن فلسطين ستنضم قريباً لمجموعة من المعاهدات والمؤسسات الدولية لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني وأرضه المهددة بالاستيطان، ولكن كيف يستقيم هذا الأمر في ظل الضغط الترامبي؟ وهل ستكون هذه المؤسسات والمنظمات الدولية قادرة على مواجهة الضغوط الأميركية؟
أكثر من ذلك، هناك معلومات تشير إلى أن إدارة ترامب ستعيد النظر في المساعدات السنوية التي تقدمها واشنطن للشعب الفلسطيني. وبشكل خاص توقيع وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري على هذه المساعدات التي تصل إلى 250 مليون دولار، وإلى أن إدارة ترامب ربما تخفض أو توقف هذه المساعدات أو تجعلها مشروطة.. وهذا هو الأخطر.
الغريب أننا لم نلاحظ أي تحركات دبلوماسية حقيقية للقيادة الفلسطينية على صعيد الإدارة الأميركية الجديدة، سوى مناشدة بعض الزعماء العرب التدخل، لعلهم يحدثون تأثيراً في حده الأدنى على السياسة الأميركية الجديدة.
قبل عدة أسابيع، كانت هناك لقاءات فلسطينية ـ أميركية على قاعدة الحوار الاستراتيجي.. وكان السؤال المطروح: أي حوار استراتيجي مع إدارة أميركية راحلة؟.. ألم يكن من الأفضل الاقتراب أكثر من الدائرة المغلقة حول ترامب... ولكن للأسف هذا لم يحصل. فقيادات وزارة الخارجية الأميركية جميعهم أعلنوا قبل يومين استقالتهم وخروجهم من الوزارة بشكل جماعي.. على الرغم من عدم تعيين وزيرٍ للخارجية الأميركية حتى الآن.. ما يعني أن كل الذين كنا نتفاوض معهم.. أو الذين تم بناء علاقات معهم، وتفهموا، ولو جزئياً القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، قد رحلوا دون رجعة! أي خسارة كاملة.
خلال العقود الستة الماضية كانت هناك جبهة أساسية أمامنا، نعتبر أن تناقضنا الرئيس معها، وهي جبهة الاحتلال الإسرائيلي... كان العالم تقريباً معنا، وعالمنا العربي بجماهيره... حتى الأنظمة السياسية كانت معنا... ولكن فجأة خلال السنوات الماضية تغير كل شيء، وفتحت أمامنا ثلاث جبهات بشكلٍ غير متوقع، ما زاد من ضعفنا وتفككنا.
الجبهة الثانية، جبهة الانقسام والتي ما زالت تنخر في عظامنا الوطنية، نتحارب داخلياً سياسياً واقتصادياً وثقافياً من أجل فتات عفن من بقايا أوسلو المدمّرة.
الجبهة الثالثة، كانت الأحداث العربية أو ما أطلق عليه "الربيع العربي" الذي تحوّل إلى نكبة شاملة.. ووجدنا أنفسنا أمام خيارات صعبة: نحن مع من؟ مع الأنظمة؟ مع الشعوب؟ مع الثوار؟ مع المعارضة؟... كلها خيارات صعبة... واخترنا الطريق الذي اعتبرناه ممكناً... وهو أننا لسنا مع أحدٍ ضد أحد... ومع ذلك يبدو أننا قد فقدنا الكل، فلا الأنظمة بقيت معنا ولو كلاماً... ولا الشعوب أصبحت القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها.
جاءت الجبهة الرابعة غير المتوقعة وهي الجبهة الترامبية، حيث قلب ترامب التوقعات كلها، من أن الرئيس سيتغلب على المرشح، لنجد أن الرئيس أصبح أكثر تطرفاً وهجوماً من المرشح... يضرب بقوة في الاتجاهات كلها... والعالم متمسمر ومصاب بحالة من الذهول... ولا ندري كم سيحتاج من الوقت للاستيقاظ من هذا الصدمة.
المشكلة أننا ما زلنا ندير المواجهة بأدوات سابقة، منتهية الصلاحية، وبوضع داخلي شبه كارثي.
خلال الأيام العشرة الأخيرة استرجعنا ردود الفعل الفلسطينية كلها حول مجموعة من الأحداث وعلى رأسها نية نقل السفارة الأميركية إلى القدس وليس آخرها الهجمة الاستيطانية التي شيّعت حلّ الدولتين إلى مقبرة التاريخ... هذه الردود كانت في مجملها تبدأ بالاستنكار وتنتهي بالإدانة، إدانة شديدة وتهديد خارج إطار القدرة على الفعل، على قاعدة أن المنطقة ستشتعل... علماً أن مطلقي التصريحات المنددة والمستنكرة والشاجبة يعلمون أن المنطقة لن تشتعل؛ لأنها احترقت منذ زمن، ولكن في إطار آخر بعيد عن القضية الفلسطينية، التي أصبحت في ذيل سلم الأولويات العربية.
يجب أن نعترف أن هناك نظاماً دولياً جديداً بدأ يتبلور، المستفيد الأول منه إسرائيل... والمطلوب إعادة ترتيب أولوياتنا وتغيير أدواتنا السياسية حتى نكون قادرين على الصمود أمام هذا التيار الجارف... وإلاّ سندفع ثمناً يهمشنا إلى عقود قادمة!!.