كما توقعنا في مقالات سابقة، لم يسارع الرئيس الأميركي الجديد، الخامس والأربعون في تاريخ الولايات المتحدة، إلى اتخاذ القرار الدراماتيكي الخاص بنقل سفارة بلاده من تل أبيب للقدس، وذلك يعود إلى سلم أولوياته، الذي بدأه بالجانب الاجتماعي، والذي أثار ضده موجة من الاحتجاجات والرفض إن كان داخل الولايات المتحدة أو خارجها، ونقصد بذلك قراراته ضد هجرة المسلمين، ومحاولته التمييز بين البشر، ولعل في رد رئيس وزراء كندا الدولة الجارة للولايات المتحدة والحليف السياسي الدائم لها، خاصة في الشأن الإسرائيلي، على قرارات ترامب بإعلان ترحيب بلاده باستقبال النازحين والفارين من الاضطهاد والحروب والإرهاب، خير دليل على ما نذهب إليه، أي أن الرجل لم يظهر ترددا أو "جبناً" أو خوفاً، بل ربما لا يحسب كثيراً لردات الفعل أي حساب، ولكن في موضوع نقل السفارة، يقال أكثر من ذلك أن إسرائيل هي التي طلبت منه تأجيل اتخاذ القرار !
ما يرجح هذا متابعة الكونغرس للأمر من الناحية التشريعية، حيث يفضل متخذ القرار بهذا الشأن، والذي يبدو انه صار جماعياً، أي يجري بعد التشاور المباشر بين ترامب ونتنياهو، أن يتم اتخاذ القرار، ليس في ظل ولا بدافع إثارة الصخب، بل بهدف التنفيذ والمرور بسلاسة ويسر، وهذا يعني أن يتم ترتيب كل المقدمات اللازمة له، على أن يتخذ في اللحظة المناسبة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، التعويض على إسرائيل في قضايا أُخرى، منها غض النظر عما أعلنته إسرائيل في تحد فج لقرار مجلس الأمن الذي كانت إدارة باراك اوباما قد سمحت بتمريره في الأيام الأخيرة لولايتها على البيت الأبيض، نقصد القرار 2334، من طرح مئات الوحدات الاستيطانية للبناء، كذلك الرد على قرار اوباما قبل أيام من مغادرته البيت الأبيض بمنح السلطة بضعة ملايين من الدولارات، بالإعلان عن تخفيض المساعدة الأميركية للسلطة.
لن تنتهي سياسة ترامب اليمينية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي عند هذه الحدود، فالرجل سيظل _ كما أسفلنا سابقاً _ جمهورياً قومياً، يمينياً متشدداً، فمن يعادي المسلمين علناً، ومن يظهر نزوعاً عنصرياً ضد كل ما هو غير أميركي، لا يمكن أن تعرف العدالة طريقاً إلى رأسه، وبالتالي لن يكون مع الفلسطينيين في تطلعهم للحرية والاستقلال.
ولعل التوافق الشخصي بين رجلين يمينيين متشددين، هما نتنياهو وترامب، يلعب دوراً خاصاً، حيث كانت الكيمياء الشخصية مفقودة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية والرئيس الأميركي السابق، الذي كان ينتمي للحزب الديمقراطي، كذلك للبشرة السوداء، وهذا ما يفسر اندفاع نتنياهو للشد على يد ترامب فيما يخص بناء الجدار بين أميركا والمكسيك لمنع دخول المهاجرين المكسيكيين للولايات المتحدة.
هذا حتى يبرر رئيس الحكومة اليمينية الإسرائيلية سياسة المعازل التي تقوم بها "دولته" في الضفة الغربية، عبر جدار الفصل العنصري، وعبر الحواجز، كذلك الفواصل الإدارية والقانونية بين البشر.
ولأن الفلسطينيين ما زالوا ينامون على وسائد من حرير، أو في بحر العسل، كما لو كانوا مخدرين، لا يدركون مدى خطورة الموقف، بحيث لم يظهر أي رد فعل دراماتيكي، من قبلهم، لا تجاه المستجدات الإقليمية الجارية منذ عام 2011، أي بعد ظهور الانقسام الداخلي بأربع سنوات، ولا تجاه المتغير الأميركي، حيث يجمع المراقبون على أن دونالد ترامب، سيكون رئيسا مستفزا ومتشددا تجاه كل الملفات الدولية، يذكر برونالد ريغان، أو حتى انه يختط طريقاً، لا تؤدي لا إلى سلام ولا إلى الحريات العامة، بل انه شغوف بإظهار كل ما هو مضاد أو معاكس لما فعله سلفه الديمقراطي، الذي ربما يكون قد أُخذ عليه في الظاهر انتماؤه للحزب الديمقراطي _ كان ترامب قبل سنوات عضوا في الحزب الديمقراطي _ بل كونه ينتمي للبشرة السوداء، كما انه حارب ضد نزعة الحزب المنافس بالسير على طريق المساواة، أولا بين البيض والسود بانتخاب اوباما رئيساً قبل 8 سنوات، ثم بين الرجال والنساء بترشيح هيلاري كلينتون للرئاسة !
هذا ما يبدو انه يحتل العقل الباطن لرجل مثل ترامب، الذي لن يتردد في الشد على يد إسرائيل فيما لو شنت حرباً جديدة على قطاع غزة، لوضع حد للسلطة الفلسطينية، ولفرض الحل هذه المرة على الضفة الغربية، فكما هو معروف، انه في الأشهر الأخيرة واستشعاراً بالخطر، تحركت عجلات المصالحة، لدرجة عقد اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني، لكن مع عودة إسماعيل هنية لقطاع غزة، ولقائه في القاهرة بوزير المخابرات المصري، وبعد الاحتجاج الشعبي ضد حكم حماس والمطالب بتوفير الطاقة الكهربائية، عادت لهجة المناكفة، لدرجة أن أحرقت حماس صور الرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة رامي الحمد الله في غزة!
الآن بدأت حماس بذر الرماد في العيون، عبر الحديث عن التقارب مع مصر، وهذه اسطوانة معروفة تماماً، فكلما يئست حماس من كسر الحصار، وتقدمت إلى رام الله، تلوح في الطريق موجة من السراب، تعيدها إلى مربع الانقسام الأول، ولعل إسرائيل تفكر في وضع حد نهائي لأي بارقة إنهاء انقسام بشن حرب أخيرة على غزة، يكون من شأنها إسقاط السلطة تماماً في رام الله وفرض دولة غزة، بإقامة نظام شراكة فيها فقط، حيث بات من الواضح خلال السنوات القليلة الماضية بان "القسّام ومجموعات المقاومة من سرايا وغيرها" هي من يحول دون أن تكون غزة قد باتت في جيب قطر وتركيا، لذا لابد من تحطيم هذا الحاجز، حتى يتم تدشين الفصل الأخير من الانقسام وهو التفاوض مع غزة، على أن "تتحرر" تماما من العلاقة مع الضفة، ورسم الصورة واضحة ما بعد عباس، أو ما بعد المشروع الوطني المعنون بمنظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها السياسي، وهذا ما ظهر عبر الصحف الإسرائيلية، معاريف ويديعوت احرونوت، التي بدأت تبشر بالحرب على غزة.
هل هي فرصة أخيرة لحلّ القضية الفلسطينية؟
05 أكتوبر 2023