كلام في بروكسل (1 - 2)

حسن خضر
حجم الخط

(مُداخلة في احتفالية إنشاء كرسي جامعي باسم محمود درويش في بروكسل في الخامس والعشرين من يناير الجاري، النص الأصلي بالإنكليزية).
أود مشاركتكم حكاية خاصة لم يخطر لي أن أرويها لمحمود درويش، رغم وجود مناسبات كثيرة تبادلنا فيها حكايات شخصية من ذلك النوع الذي يتبادله الأصدقاء.
لم يخطر لي أن أروي تلك الحكاية رغم حضوره القوي فيها، ورغم أنها عن لقائي الأوّل معه، ومرجع الأمر أن في روايتها ما قد ينطوي على شبهة الضغط النفسي، وهذا غير ضروري بين الأصدقاء.
تعود الحكاية إلى العام 1969. كنتُ آنذاك ولداً في السادسة عشرة من العمر، وكانت قد مرّت سنتان على الاحتلال الإسرائيلي.
سمعت في ذلك العام بمحمود درويش، على الأرجح عن طريق الإذاعة المصرية، وإذاعة صوت العاصفة، وكانت تبث من القاهرة، أيضاً. وعندما أخبرني صديق أنه حصل على نسخة من ديوان "عاشق من فلسطين" لمحمود درويش، شعرت أن في مجرّد قراءة كتاب كهذا ما يعني أنني أخطو في الحياة بطريقة مثيرة تماماً.
وهكذا، ذهبت في اليوم الموعود لاستعارة الكتاب. ولا بد، هنا، من ملاحظة لا غنى عنها: كنّا في ذلك الوقت نعيش تحت نظام حظر التجوّل ما بين أوّل خيط للظلام، وأوّل خيط للفجر.
وكانت سلطة الاحتلال تتكرّم أحياناً فتمنحنا ساعة إضافية من أوّل الليل. ولكن كثيراً ما تغيّرت الساعات والمواعيد. ومع طول المدة يئس الناس من معرفة ما يُسمح به من الليل، ومكثوا في بيوتهم مع أوّل الغروب.
الشاهد أن مجرّد الخروج من البيت على حواف الغروب كان مغامرة لا ينبغي الاستهانة بها. مشيت إلى بيت الصديق قبيل سريان حظر التجوّل، على أمل الحصول على الكتاب، والعودة بسرعة، فالمسافة بين البيتين لم تكن كبيرة. ولكن مفاجأة غير متوقعة كانت في الانتظار:
لم أتمكّن من مقاومة استراق النظر، والتوريق، وقراءة مقطع هنا أو هناك، وحدث بعد ذلك، بلا تفكير، أنني توقفت عن المشي، واخترت مكاناً يرشح عليه ضوء، ولم أتوقف عن القراءة إلا مع إغلاق صفحة الكتاب الأخيرة.
يمكن التخمين، الآن، أنني انتهكت نظام حظر التجوّل، وهذا صحيح. والصحيح أيضاً أن الأمر كله كان محفوفاً بقدر من المجازفة. وهذا النوع من المجازفات، إذا كنت في السادسة عشرة من العمر، تقدم عليه بلا تردد، ولا تسأل عن العواقب.
بعد أسابيع قليلة قرأت فيها "عاشق من فلسطين" مرّات كثيرة، وحفظت الكثير من قصائده عن ظهر قلب، وجدت نفسي في السجن، وتعرّضت للتعذيب.
وكنت قرأت في وقت ما عن قدرة السجناء على مقاومة الجلاّدين، وتقليص الإحساس بالألم، إذا ركّزوا أفكارهم على شيء آخر بعيد. وأوّل ما خطر على الذهن كان المقاطع الافتتاحية الأولى من "عاشق من فلسطين".
وبينما أسلاك التليفون المجدولة ترسم خيوطاً دامية على الجسد العاري، دوّت في فضاء الدماغ، والقلب: "عيونك شوكة في القلب توجعني وأعبدها وأحميها من الريح".
ربما قلّصت تلك المقاطع الإحساس بالألم لبرهة من الوقت. لا أذكر الآن. وهذا غير مهم على أي حال، فالأهم أنها كانت عوناً مدهشاً بالمعنى النفسي، ومنحت صاحب الجسد المعذّب إحساساً بالكرامة. بالمناسبة يمكن أن تحقق انتصاراً رمزياً على الجلاد إذا نظر إلى عينيك ولم ير فيهما الخوف. كلاكما يعرف الحقيقة، بلا كلام، وإذا اشتد الضرب حصل البرهان.
لماذا أردت مشاركتكم حكاية خاصة من هذا النوع؟
للقول إن ما لا يحصى من الفلسطينيين والعرب من أبناء جيلي، الذين تفتحت أعينهم على العالم بعد هزيمة حزيران، عاشوا تجارب وحكايات خاصة، وشخصية تماماً، مع محمود درويش، ولكل منهم حكاية يمكن أن يرويها، وإذا كانت لا تشبه بالضرورة حكايتي الخاصة، فإنها ترتبط في كل الأحوال بتجربة تكوينية أولى، تجربة الانخراط في الشأن العام، والبحث عن إجابات تمس المعنى والجدوى: مَنْ أنا، وماذا أنا، وماذا أريد؟ هذه الأسئلة كانت على قدر كبير من الأهمية في أواخر ستينيات القرن الماضي.
وبقدر ما يعنيني الأمر فإن هذه الأسئلة وجدت ضالتها في "عاشق من فلسطين".
فها هو شخص من بلادي، لا أعرفه، يقول ما أهجس وأحدس به عن الهوية، والبلاد، والكفاح، والحب، بمفردات يمكنني التماهي معها، أشعر وكأنها كانت على طرف اللسان، ولكنه سبقني إليها.
والمهم، أيضاً، (وهذا ما لا ينبغي نسيانه، في زمن كارثة صعود اليمين السياسي والديني في فلسطين والعالم العربي) أن ذلك الشخص من بلادي كان يقول ما أهجس وأحدس به عن الهوية، والبلاد، والكفاح، والحب، بنظرة تقدمية، وإنسانية، لا تكره النساء، ولا تشيطن العدو، بل تُمجّد الحب والحياة.
وإذا نظرتم إلى الجالسين في القاعة، الآن وهنا، إلى الياس (صنبر) والياس (خوري) وفاروق (مردم بيك) وكاظم (جهاد) وليلى (شهيد) كلهم كانوا من أصدقاء محمود درويش، وقد التقوا به مجازياً، في مطلع العمر والصبوات، قبل اللقاء الفعلي في الواقع، وفي مناسبات يذكرونها بقدر ما تمثّل جانباً من تجاربهم التكوينية الأولى على مستويات مختلفة: إنسانية، وثقافية، وسياسية.
ولكن ما السر، ولماذا نجح محمود درويش أن يكون ما كان؟