لفهم "المسيحية الصهيونية" يجب أولاً فهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتطورات السياسية التي حصلت في أوروبا في عصر النهضة، عصر الإصلاح الديني والتجارة والاكتشافات الجغرافية والتحولات الكولونيالية.
في بدايات القرن الـ 16 زار الراهب "مارتن لوثر" روما، وصُدم من هول ما رأى في الفاتيكان، فانتقد سلطات البابا المطلقة، وعاب على رجال الكنيسة انصرافهم لجمع الثروة وترفعهم عن الشعب، ما أدى به لقيادة عملية إصلاح ديني ثورية، ترافقت معها حروب دينية عنيفة، نجم عنها انقسام العالم المسيحي بين المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي.
هذا الانقسام، أوجد وعمّق خلافات كثيرة بين المذهبين في مسائل عديدة، من بينها الموقف من اليهود، فحتى ذلك الوقت، كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر فلسطين الوطن المقدس للمسيحيين، وظلت تفصل ما بين اليهود القدامى واليهود المعاصرين، ولم تنظر لهم بوصفهم شعب الله المختار، الذي قدر له أن يعود إلى أرض الميعاد، بل نظرت للخطايا التي ارتكبوها بحق الرب، وبناء على ذلك تم عزل الكثير من الجماعات اليهودية في أحياء مغلقة.
أما الكنيسة البروتستانتية الأصولية فكان لها رأي آخر، إذْ آمنت بأن قيام دولة إسرائيل مسألة دينية، باعتبارها تجسيداً لنبوءات الكتاب المقدس، وتشكل المقدمة لمجيء المسيح المخلص إلى الأرض، وبالتالي رأت أن من واجبها الدفاع عن اليهود، وعن حقهم بوطن قومي، ما أدى فيما بعد إلى بروز ما تسمى المسيحية الصهيونية، التي ساهمت بتغيير النظرة الأوروبية (أو جزء منها) تجاه اليهود، حيث أخذ بعض الأصوات المسيحية ينادي بعودة اليهود إلى "أرض الميعاد".
بعد موجة من الحروب الدينية تمكن الإنجليز من الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، والانتقال إلى البروتستانتية، والتي نشأ عنها فيما بعد تيار أصولي متشدد (البيوريتانية).
عملت هذه الجماعة على إحياء العهد القديم "التوراة"، واعتبرته أساس المسيحية، وجعلته مرجعيتها بدلاً من تفسيرات الكنيسة الكاثوليكية، وجعلت من يوم السبت بدلاً من الأحد ذكرى قيام المسيح، وأخذوا يستخدمون اللغة العبرية في صلواتهم وكنائسهم.
ومع تقديسهم للعهد القديم تحسنت علاقتهم باليهود، بوصفهم الشعب المختار، لذلك تبنوا فكرة إعادتهم إلى فلسطين، كمقدمة لعودة المسيح، ثم انتشرت فكرة "عودة المسيح" في أنحاء أوروبا، وارتبطت بضرورة إعادة اليهود أولاً إلى فلسطين.
ومن هنا، فقد أدى إيمان البروتستانتية الأصولية المطلق بالتوراة، إلى وجود فكر يربط بين الديني والسياسي، وبين مجيء المسيح وإقامة دولة يهودية.
ومن أشهر السياسيين البريطانيين الذين تبنوا هذا الفكر اللورد "آرثر بلفور" مهندس وعد بلفور (1917).
ومع بدايات القرن التاسع عشر حدث انقسام بين منظري المسيحية الصهيونية، حيث ظهرت مدرستان: البريطانية الداعمة لنظرية تحول اليهود للمسيحية قبل عودتهم لفلسطين كمسيحيين، والأميركية التي آمنت بأن اليهود سيعودون إلى فلسطين كيهود قبل تحولهم للمسيحية.
ويعتبر القس الإيرلندي "جون داربي" بمثابة الأب الروحي لحركة المسيحية الصهيونية الأميركية، حيث بشَّر لسنوات طويلة لنظريته التي تربط بين عودة المسيح والحياة الألفية السعيدة، التي تستدعي قيام دولة اليهود الممهدة لذلك، وأيضا كتب "سايروس سكوفيلد" حول الحرب الكونية على الأشرار، ولكنه جعلها حرباً مدمرة "هرمجدون" بين اليهود وأعدائهم من المسلمين والكفار.
مثلت الكنيسة البروتستانتية في أميركا الداعم الأكبر لمشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين، بوصفها تشكل أكبر الطوائف المسيحية 65% مقارنة بالكاثوليك 30%، وفي ذات الإطار، وظفت الولايات المتحدة البعد الديني لخدمة البعد السياسي.
بدا ذلك واضحاً في تصريحات السياسين والمفكرين ورجال الدين، فمثلا قال "جيري فالويل" إن "الله بارك أميركا لأن أميركا باركت اليهود".
ولتأطير هذا الدعم أسس المسيحيون الصهاينة في أميركا عدة مؤسسات هدفها المعلن مساندة إسرائيل، أبرزها "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" وهي النسخة المسيحية من "أيباك"، ومؤسسات أخرى مثل "مؤتمر القيادة المسيحية من أجل إسرائيل" و"السفارة المسيحية العالمية في أورشليم" وغيرها.
وتلتقي الحركتان الصهيونية اليهودية والمسيحية الصهيونية حول "مشروع إعادة بناء الهيكل اليهودي في الموقع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى اليوم"؛ لذا فالهدف الذي تعمل الحركتان على تحقيقه يتمحور حول فرض سيادة يهودية كاملة على كل فلسطين، بدعوة أنها "أرض اليهود الموعودة"، ما سيؤدي إلى تعميم البركة الإلهية على كل العالم!
قبل أن تتحول المسيحية الصهيونية إلى أداة سياسية كانت في إطار الاجتهادات اللاهوتية، وكانت تنظر لعودة اليهود إلى فلسطين من منطلق روحي/ ديني بحت، من حيث تحقيق النبوءة، والعلاقة بين اليهود وتحقيق الوعد القائم على عودة المسيح المخلص.
ولكن، بدءاً من القرن السابع عشر بدأت المصلحة السياسية تلقي بثقلها على الجانب الديني، أو بمعنى أوضح تبين البعد السياسي للمشروع الاستعماري البريطاني الذي ظل يتوارى خلف اللباس الديني، فتم ربط الأفكار الدينية مع السياسة الواقعية القائمة على الحصول على نفوذ في الشرق الأوسط، وتقوية هذا النفوذ تحت شعار الدين، وأصبحت أفكار عودة اليهود تُستغل كستار للمصالح الاستعمارية البريطانية في فلسطين، التي ارتبط موقعها بالمتطلبات الأساسية للإمبراطورية.
وتلخص المؤرخة الصهيونية "بربارة تخمان" كيفية توظيف البعد الديني لخدمة السياسي، بالاستفادة من اليهود وتوظيفهم في خدمة المصالح الاستعمارية، والارتباط الإنجليزي المبكر بالصهيونية، فتقول: "الدين وحده لم يكن كافيا، إذ إن مشاعر البيورتانيين الغامضة والتآخي الروحي مع أبناء إسرائيل ما كانت لتؤدي إلى نتائج عملية لو لم تتدخل المصالح السياسية".
وبالفعل، منذ عهد "كرومويل" وحتى عهد "دونالد ترامب" كان أي اهتمام استعماري بفلسطين يعتمد على دافع الربح تجارياً، أو استعمارياً وعسكرياً، ولكن بغطاء الدافع الديني.
خلاصة القول، ظلت الصهيونية المسيحية تياراً هامشياً في بريطانيا، ولم تهيمن على الحياة الدينية لا في بريطانيا ولا في غيرها.. لاسيما وأن الكاثوليكية والأرثوذكسية ظلتا تعارضانها، لكنها ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل الصهيونية اليهودية الجديدة. وهي اليوم حركة قوية، ولها حضورها الفاعل، خاصة في أميركا (منذ عهد ريغان)، وهناك نحو 40 مليونا من أتباع الصهيونية المسيحية داخل أميركا، ولكن هذا لا يعني أنهم جميعا مهتمون بإسرائيل، ويشهد الإعلام الأميركي حضورا متزايدا لها، حيث تمتلك نحو 100 محطة تلفزيونية، وأكثر من 1000 محطة إذاعية، ويعمل في مجال التبشير آلاف القسيسين.