المتوكل طه " الضِّباع "

 المتوكل طه " الضِّباع "
حجم الخط

لم يكن للضّباعِ أنْ تأتي لولا رائحة الموت . وأبو شحادة لم يكن في حسبانه أنْ يفتتحوا المقبرة الجديدة بجانب بيته ، الذي يبعد قليلاً عن باقي جيرانه ، في بلدتنا ذات البيوت المتناثرة ، على السفوح والقمم والتلال . فما أنْ يدفنوا جثّةً جديدة ، حتى يسمع أبو شحادة جعار الضّباع ، التي تروح تحمحم حول القبر، وتحفر بأيديها التراب ، إلى أنْ تصل الكفنَ ، فتسحبه بأسنانها لتلتهم صاحبه ، وقد عَلَتْ زمجرتُها ، بعد أنْ أتتْ على الميت ومصمصت عظامه وقرقشت أطرافه ! وأبو شحادة يرقب الضباعَ من خلف شقوق باب بيته ، مرتعداً خائفاً .

 

وتكرّر الأمر ، وأبو شحادة لا يدري ماذا سيفعل مع ضيوفه النَّهمين ، الذين يتركون المقبرة ، وقد تعفّرت بِمِزَقِ اللحم والروائح الزّنخة القاتلة ، فيأتي بالمجرفة ويُسوّي القبرَ ويُعيد الشاهدين ، وكأنّ شيئاً لم يكن .

 

كان أبو شحادة يخاف من لوم الناس له ؛ لماذا لم يدافع عن حُرْمة الموتى ويطرد الضباع وينادي على الناس ، ليبعدها عن موتاهم ؟!

 

لقد كان لأبي شحادة رأي آخر ؛ وهو أن يفتح القبر بنفسه ، ويرفع الجثّة إلى ما فوق الّلحد ، لتتمكّن الضباعُ من التهامها سريعاً ، حتى لا تبقى طيلة الليل تنغّص عليه نومه ، وتبقيه يقظاً مفزوعاً .

 

واستمرأت الضباعُ الأمر .

 

لكنّ الموتى لم يأتوا طيلة أسبوعين وأكثر ! لم يمت أحدٌ من البلدة ، فماذا سيأكل الزوّارُ الشَّرِهون ؟

 

حضرت الضباع ، ولم يستطع أبو شحادة أنْ يُحصي عددها ، لكنّه حمل نبّوته ، الطويل الغليظ ، وأمسك به كأنه رمح مشدود ، وشقّ باب بيته ، وراحَ يخاطبُ الضباعَ ويطلبُ منها الرحيل ، كأنها تفهم ما يقول ؛ بأنّ أحداً لم يمتْ !

 

تقدّمت الضباع نحو أبي شحادة ، فهرب وأغلق باب بيته عليه ، وحاول أنْ يركز الباب بكل ما وجده أمامه ، لكن الضباع بقيت تحوم حول بيته تهزّ جدرانه بأصواتها المخيفة ، فراح يصرخ ، ما أفزع الضباع ، فارتفع جعيرها واحتدّت زمجرتها ، وكانت تبرطع وتبول حول البيت ، وأبو شحادة لم ينتبه أنّ نافذة غرفة نومه كانت مُشرعة ، فققزت إليها الضباع ، وصار الرجل ، على صغر جُرْمه وحجمة ، وليمةَ الضباع تلك الليلة .

 

كان لا بدّ من وضع حدّ للضباع ، لتحفظ البلدةُ سلامةَ موتاها ، فتوصّلوا إلى قرارٍ مفاده؛ أن ينام أبوعارف في النّعش مع بارودته ، ويرقب الضباع من خلال الفتحة الواقعة عند رأس النّعش ، لينظر منه ويرى الضباع عند مجيئها ، ويصوّب ماسورة بندقيته نحوها، ويطلق عليها النار ، فهو قنّاص ماهر لا تخطئ رصاصته .

 

وبالفعل حضرت الضباع ، وكانت رصاصة أبي عارف في بيت النار ، وأطلقها ففجّر رأس الضبع المتقدّم ، فجفل الباقي وهرب ، واستيقظت البلدة على صوت الرصاص ، فجاءوا بعصيّهم وفؤوسهم وبنادقهم ، وطاردوا الضباع .

 

بعد أسبوع هرولت الضباع مرّةً أخرى تشمشم أرض المقبرة ، حيث الجثث الجديدة الراقدة ، فما كان من أبي عارف إلا أن استقبلها بزخّات متلاحقة من بندقيته ، فهبّت البلدة من جديد ، وكانت الضباع قد رحلت .

 

بعد شهور ، اعتقد الناس أنّ الضباع لن تعود ، وأنها تعلّمت الدرس تماماً ، فقرّروا سحب الرصاص من أبي عارف ، لكنّه أكّد لهم بأنها ستعود ، فلم يطاوعوه ، وعاد إلى بيته حزيناً . والكلماتُ تكسر العظم مثل الحجارة .

 

وفجأة ! تصادى الرصاص ؟! فاستيقظ الناس ، وقالوا لقد عادت الضباع .. فانطلقوا نحو المقبرة ، فوجدوا أبا عارف قد جندّل ثلاثة ضباع ! ومن يومها وأبو عارف في مركز التحقيق ، بعد أنْ صادروا بندقيته ! ولم يُفْصح ، حتى اللحظة ، عن مصدر الرصاص . وكان الموتى خائفون ..