على الرغم من كل أجواء التفاؤل التى تحيط بالجهود التى تبذل للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، وعلى الأخص بعد مؤتمر «أستانة» عاصمة جمهورية كازاخستان الذى شاركت فيه للمرة الأولى وفود تمثل فصائل معارضة إلى جانب الوفد الحكومى السورى تحت رعاية ثلاثية: روسية وتركية وإيرانية، إلا أن هناك مخاطر جديدة أخذت تتهدد الفرص المتاحة لإنجاح هذه التسوية، أبرزها الخلاف المثار حول تشكيل الوفد الذى سوف يمثل المعارضة السورية فى المفاوضات التى ستبدأ فى جنيف للبناء على ما تم إنجازه فى مؤتمر «أستانة» ، والخلاف حول مشاركة أو عدم مشاركة وفد للمعارضة الكردية فى مفاوضات جنيف، إضافة إلى التعقيدات التى أثارها اقتراح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بإنشاء «مناطق آمنة» للمهاجرين والنازحين داخل سوريا، وكذلك التعقيدات التى أثارها طرح روسيا لمسودة دستور جديد لسوريا مفعم بالتجاوزات بحق سوريا وشعبها.
الملفت، وسط هذا كله، أن تحرص جامعة الدول العربية، على تأكيد عزوفها أن تكون طرفاً فى معادلة تحديد مستقبل سوريا، وأن تحرص على تأكيد أخطائها التى ارتكبتها بحق العراق عندما غابت، سواء بإرادتها أو عدم إرادتها، عن المشاركة الفعالة والقوية فى تحديد مستقبل العراق، وهى المهمة التى قامت بها الولايات المتحدة وإيران بامتياز، وكانت النتيجة هى كل ما يحدث الآن فى العراق وللعراق، وكل الأثمان الفادحة التى يدفعها العراق ويدفعها العرب والأمن القومى العربى بسبب هذه الأخطاء.
الغياب العربى يتكرر فى سوريا، فالعرب، سواء كانوا دولاً، أو جامعة الدول العربية لم يكونوا طرفاً مشاركاً فى بلورة العملية السياسية السورية الجديدة التى احتكرتها روسيا وتركيا وإيران ابتداءً من لقاء موسكو الشهير (20/12/2016) الذى كان نتيجة تبلور توافق ثلاثى بين هذه الأطراف عقب حسم معارك حلب، وهزيمة فصائل المعارضة المدعومة من تركيا والسعودية وقطر والولايات المتحدة الأمريكية أمام قوات النظام السورى مدعومة من روسيا وإيران وحزب الله. تركيا أدركت أنها باتت خارج المعادلة السورية بعد انتصارات جبهة «النظام السوري- روسيا- إيران- حزب الله» لذلك قررت أن تنضم إلى هذه الجبهة بعد صداماتها مع الحليف الأمريكى الذى اختار أن ينحاز إلى «الأكراد الأعداء» وبعد هزائم فصائل المعارضة الموالية لها، لذلك قررت أن تنحاز إلى مصالحها البحتة غير عابئة بلوم من الحلفاء الدوليين أو الإقليميين خاصة السعودية وقطر، وأن تطرح نفسها كطرف ضامن لفصائل المعارضة للتوصل إلى حل سياسى يعكس معادلة توازن القوى الجديدة، فى سوريا بعد معارك حلب، وكانت ثمرة ذلك هو لقاء موسكو، الذى قاد إلى مؤتمر أستانة الذى توصل إلى إجراءات لبناء الثقة بين النظام السورى والمعارضة (غير الإرهابية)، وإلى آلية لوقف الاقتتال تمهيداً للتوجه إلى مؤتمر جنيف، الذى أعلن المبعوث الدولى ستيفان دى ميستورا تأجيله إلى 20 فبراير الجارى بدلاً من 8 فبراير بسبب التعقيدات المشار إليها وخاصة ما يتعلق بالخلافات المثارة حول تشكيل وفد المعارضة.
كان من الواجب على جامعة الدول العربية وهى تستعد لعقد مؤتمر القمة العربية الدورية الشهر القادم فى العاصمة الأردنية أن تبحث فى كيفية فرض الطرف العربى كطرف مشارك فى تقرير مستقبل سوريا. صحيح هناك اتصالات تجريها الأمانة العامة للجامعة العربية مع الأمانة العامة للأمم المتحدة المشرفة على انعقاد مؤتمر جنيف الذى سيعقد أواخر هذا الشهر، لكن الواقع يقول أن العرب كانوا خارج معادلة الحسم العسكري، وأن الذين شاركوا منهم فى هذا الحل كانوا مع الطرف الخاسر، لكن الأخطر أن هؤلاء كانوا يدعمون منظمات إرهابية تقاتل من أجل إسقاط سوريا ولم يجدوا من يطالب بمحاسبتهم حتى الآن، كما أنهم، أى العرب، كانوا خارج معادلة الحسم السياسي، كما تبلورت فى اجتماعات موسكو ثم أستانة التى كانت حكراً على الثلاثى الروسى والتركى والإيرانى .
وفى الوقت الذى ظهرت فيه مشاكل حقيقية تتعلق بتعقيد فرص التسوية السياسية، بعضها شديد الارتباط بمستقبل سوريا، وخاصة ما ورد فى مسودة مشروع الدستور الروسى لسوريا وخاصة التجاهل المتعمد لعروبة سوريا إرضاء لأطراف مشاركة معادية للعروبة سواء كانت الطرف الكردى أو أطراف إقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل)، وفى الوقت الذى يطرح فيه وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف مبادرة يمكن من خلالها الدفع بمشاركة عربية قوية فى تقرير مستقبل سوريا، وموازنة مواقف تلك الأطراف، فإذا بجامعة الدول العربية تتراجع وترفض تحت أسباب واهية. مبادرة لافروف جاءت ضمن مشاركته فى «المنتدى العربي- الروسي» الذى عقد فى أبوظبى أول فبراير الجارى وقال فيها إن «إبقاء دمشق خارج منظومة الدول العربية لا يساعد جهود السلام»، وقال «أريد أن أذكّر بأن عدم تمكن الحكومة السورية، وهى عضو يتمتع بالشرعية فى منظمة الأمم المتحدة، من المشاركة فى محادثات جامعة الدول العربية، لا يساعد الجهود المشتركة»، وأراد أن يكون أكثر وضوحاً فقال «يمكن للجامعة العربية أن تؤدى دوراً أكثر أهمية وأكثر وقائية لو كانت الحكومة السورية عضواً فيها».
مبادرة الوزير الروسى لم تأت من فراغ، فهو يتحدث من منطلق واقع سياسى جديد وواقع عسكرى جديد فى سوريا، فرض على المعارضة السورية وعلى تركيا حليفتها أن تذهب للحوار مع النظام، والقبول بخيار الحل السياسى المعروض من روسيا وإيران وتركيا بعد أن كانت تمتنع عن ذلك، وبعد أن انتهى للأبد خيار إسقاط حكم الرئيس السورى الذى كانت تصر عليه المعارضة والدول العربية الداعمة، لكن الأمين العام للجامعة العربية كان أكثر حرصاً على مشاعر تلك الأطراف التى أصرت على إبعاد سوريا عن الجامعة، والتى مولت ودعمت تلك المعارضة بما فها من فصائل إرهابية، بما يفوق حرصه على فرض العرب كشريك قوى فى تقرير مستقبل سوريا. فقد رد الأمين العام لجامعة الدول العربية على مبادرة أو مقترح الوزير الروسى بأن العملية «مسألة عودة دمشق لشغل مقعدها قرار خاضع لإرادة الدول الأعضاء، إذا نوقش هذا الأمر على مستوى اجتماعات وزراء الخارجية أو مستوى الأمانة العامة، فإن الجامعة ستنفذ القرار». وزاد على ذلك بأن «الوضع السوري، مازال يتسم بالسيولة، ومازال النقاش السياسى للتسوية لم يستكمل بعد». تبرير ثمنه أن يتفرد غير العرب بتقرير مستقبل سوريا، وأن تتكرر الدروس دون أن تجد من يتعلم منها أو يستوعبها أو يتدبر لتداعياتها.
عن الاهرام