"عباد يحيى" كاتب إشكالي؛ في عمله الأول "رام الله الشقراء" انتقده الكثيرون، وبعض النقاد اعتبروا أنه لا يرقَى إلى مستوى الرواية، بل يُصنف في إطار المقالات الانطباعية، وفي عمله الثاني "جريمة في رام الله" جوبه بحملة انتقادات عنيفة، وبحملة تضامن واسعة من قبل المثقفين.. في المرتين أثار الكاتب جدلا كبيرا، وهذه تُحسب له، فأي عمل لا يثير الجدل لا يعتد به.
ربما جاء قرار النائب العام بمصادرة رواية "جريمة في رام الله" من المكتبات، واستدعاء مؤلفها للتحقيق، استجابة لحملة دعائية ضد الرواية والمؤلف، تصاعدت في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد منع مناقشتها في مكتبة بلدية نابلس؛ حيث جاء القرار بذريعة احتواء الرواية على عبارات خادشة للحياء.
لن أعلق على مضمون الرواية، لأني لم أقرأها بعد، وإن كان من حق كل إنسان أن يبدي رأيه فيها، إلا أن الرأي الأصح والحكم الأقرب للصواب سيكون لذوي الاختصاص؛ أي النقاد والأدباء.. ومن الغريب والمستهجن أن يكون الحكم على رواية لأجهزة الأمن ومن يمثلها، هذا لا يحدث إلا في الدول البوليسية، التي ما زالت تؤمن بمقص الرقيب، وتمارس الوصاية على الأدب والفكر، وتكون مصيبة بمستوى الفضيحة عندما تأتي مثل هذه الممارسات في زمن العولمة وثورة المعلومات والإنترنت، ما يدل على انفصام مع الواقع والعيش بذهنية وأدوات الماضي بكل ما فيه من تخلف وقمع.
ببساطة إنها ممارسة تنتمي إلى سياسة التسلط والوصاية على عقول الناس وعلى حرية التعبير، بحجة خدش الحياء وحماية المراهقين.. وهي مقولة تكررها كل السلطات القمعية لتبرر وصايتها على حقل الثقافة، كمقدمة لفرض وصايتها وتسلطها على المجتمع.
فلسطين عضو في منظمة اليونسكو، وملتزمة بكل الاتفاقيات التي تضمن حرية التعبير، وقد قطعنا شوطا مهما في الحريات، بما يتجاوز معظم الدول المجاورة، لدينا عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية الخاصة، وسنويا تصدر عشرات الكتب، التي لا يحتاج مؤلفوها لأي أذونات أو تراخيص، ويوميا ينشر في الصحف وعلى الفيسبوك عشرات المقالات المعارضة ودون رقابة، أو منع.. وهذا منجز مهم، من الخطير التراجع عنه.. إذا كان في هذا تأثير على جودة المنتج الثقافي، إلا أنه لا يبرر عسكرة الثقافة، وإخضاعها للشروط الأمنية.. هذا يؤدي إلى نكوصها وتراجعها.. فالنقد الأدبي الرصين وحده القادر على تصويب الخطأ، والارتقاء بالأدب وتطويره.
قرأت بعض المقاطع المجتزأة من الرواية، المعزولة عن سياقاتها، وقد تم ترويجها بوصفها أساس العمل الروائي، لذلك لم أستغرب من التعليقات الرافضة للرواية، لكن ما هو صادم هو استصراخ ضمير الأمة وحراس القيم واستدعاء الرقابة، واللعب على وتر العادات والتقاليد والمحافظة الاجتماعية والتعصب الديني.
حجة حماية الأطفال حجة متهافتة، ببساطة لأن أطفالنا يمضون ساعات في غرفهم على الإنترنت، أو مع أصدقائهم، ومن المستحيل فرض رقابة دائمة عليهم، ومنع أي شيء عنهم سيقودهم إلى البحث عنه، بدافع الفضول، ولأن الممنوع مرغوب، الأفضل هو تشجيعهم على المطالعة، بأجواء منفتحة يسودها الحوار العقلاني، الذي يحترم عقولهم وتطلعاتهم، بدلا من فرض الوصاية عليهم.. وهناك فرق كبير بين ما هو محرم وعيب، وبين ما يتجنب المجتمع الحديث عنه ويتهرب منه، من منطلق التابوهات.
الجنس أحد أهم المواضيع التي تشغل الإنسان، مراهقا كان أم كهلا.. وهو أكثر موضوع يتم التهرب منه، رغم أنه موجود في كل تفاصيل حياتنا، ينتقده الناس علنا، ويمارسون كل أهوائهم وراء الجدران.. في هذه الرواية مثلا أكاد أجزم بأن معظم الذين انتقدوها سيقرؤونها حالما تتوفر لديهم، ليس بدافع النقد الأدبي، بل لأنها تحتوي على عبارات وصور جنسية. وهذا أحد أشكال الانفصام وازدواج الشخصية.
نأتي على السؤال الأهم: هل الأدب مقيد بقيم المجتمع؟ أم يحق له الخروج على كل الأعراف، والجموح بالخيال بلا حدود؟ باعتقادي أن هناك فرقا بين الإبداع والأدب من ناحية، وبين الدين والقيم المجتمعية من ناحية ثانية.. الدين والقيم عادة ما تكون محافظة، ولهما وظيفة أخلاقية.. أما الأدب فلا يكون مبدعا وجميلا إلا بالقدر الذي يخرج فيه عن المألوف، بقدر ما يحرك الساكن، ويثور على المعتقد والموروث، ويحطم التابو، ويجمح بخياله إلى ما وراء الحدود.. الأدب الجيد هو الذي يثير الجدل، ويطرح التساؤلات بجرأة، ويهز القناعات الراسخة.. وهذه هي وظيفته.. وخلاف ذلك، يصبح الأدب جامدا، بلا روح.. وهذا ما تسعى إليه السلطة (تاريخيا).. توظيف الأدب والثقافة لتكريس قيم المجتمع كما هي، وإعادة إنتاجها سنة بعد أخرى، بما يبقي على الوضع الراهن، بكل مساوئه وسلبياته، خاصة لأصحاب الامتيازات والنفوذ، بحجة المحافظة على التقاليد.
وهنا، في العمل الإبداعي ليس من حق أحد رسم حدود للخيال، أو تحديده بشروط، أو تقييده بمعايير.. لا بحجة الحفاظ على أخلاق المجتمع، ولا بحجة الحفاظ على جودة ومستوى الإنتاج الأدبي.. القراءة لا يمكن أن تضر بأخلاق المجتمع، والناس قادرة على تمييز الغث من السمين، ولا أحد يجبر أحدا على قراءة أي كتاب، أومشاهدة أي فيلم..
في تراثنا الثقافي عشرات الكتب التي تطفح بالعبارات والإيماءات الجنسية، بدءًا من "عودة الشيخ إلى صباه"، و"ألف ليلة وليلة"، و"نواضر الأيك" لجلال الدين السيوطي، وأشعار أبو نواس.. ومرورا بروايات حنا مينا ونجيب محفوظ والعشرات غيرهم.. وهذا ما يطرح الأسئلة الآتية: ما جدوى مصادرة رواية والإبقاء على عشرات غيرها؟ وما جدوى مصادرة رواية في زمن الكتب الإلكترونية؟ والسؤال الأهم: هل رواية "جريمة في رام الله" بحد ذاتها جريمة! أم أن الجريمة تكمن في مصادرتها؟ خاصة وأن مصادرتها تأتي بعد حرق كتاب عن قرية في جنين، وبعد حرق ومصادرة كتب أخرى في السنوات السابقة، ما ينذر بتعميم ثقافة داعشية.
الأدب لا يتطور في البيئات المغلقة، والمجتمعات لا تتحرر ولا تتقدم إلا بالحرية.. الحرية التي سقفها السماء..